في الوقت الذي يبذل فيه مسلمو ألمانيا جهوداً متضافرة من أجل تحقيق الاندماج الإيجابي في المجتمع، تكتشف الأجيال الجديدة أنها غريبة عنه، وتُصدَم بالخطاب الرافض لها من التيار اليميني المتطرف ومن غيره من أطراف دخلت على خط المزايدة في سباق كسب أصوات الناخبين عند حلول الانتخابات بمستوياتها المختلفة، وتلك ظاهرة تتطلب بحثا في سبر أغوارها، والوقوف على أبعادها وآثارها، بُغية تَلَمُّس طرق الحلول وتجاوز الآثار. وأحب التأكيد بداية على أن تلك الظاهرة تشمل المسلمين وغير المسلمين من الأصول المهاجرة لألمانيا، وإن كان للمسلمين منها النصيب الأوفى.
سنناقش الموضوع – بحول الله – من خلال تلك المحاور:
– حقيقة المشكلة
– مظاهرها
– أسبابها
– آثارها
– الحلول المناسبة
وعلى الله توكلنا ومنه العون والسداد.
يشعر كثير من أبناء مسلمي ألمانيا – وأبناء غير المسلمين المهاجرين – بأنهم ليسوا مواطنين ألمان كاملي الحقوق، وما يَعجبون له أن موطن ميلادهم أو نشأتهم ولسانهم وثقافتهم ألمانية، ومع ذلك تُشكل أصولهم أزمةً وحاجزا أمام الاعتراف بهم، ولعل أزمة لاعب المنتخب الألماني الشهيرة مسعود أوزيل ذو الأصل التركي والهجمة الشرسة التي تعرض لها- على خلفية خروج بلاده مبكرا من كأس العالم في روسيا 2018 وما تبعه من قرار اعتزاله الدولي اللعب لفريق بلاده – قد آثارت الجدل الواسع وبعثت برسالة مفادها: لا جدوى من الاعتراف بك كألماني مهما قدمت من أعمال أو أحرزت من نجاحات للمجتمع، فعندما تكون ناجحا متألقا فأنت ألماني وعندما تخفق فأنت أجنبي… وهنا تجد الحليمَ حيرانا.. فكيف السبيل إذاً؟ هكذا يسأل الشباب..
تتجلى مظاهر ضَعْف الاعتراف بالأجيال التي وُلدت وترعرعت هنا في صور عديدة منها:
يحتل ملف المرأة مكانا هاما عند المجتمع الأوروبي حكومة ومؤسسات مجتمع مدني حتى تبوأت مكانها ومكانتها، لكننا نَعْجب من التمييز والإقصاء الذي يقع على المرأة المسلمة بسبب حجابها |
1- ضعف تكافؤ الفرص، ووقوع حالات تمييز كثيرة خاصة على المسلمات بسبب حجابهن، أو أسمائهن التي تُظهر هويتهن سواء في المدارس أو في دوائر العمل. وكم من شاب مسلم لم يُقبَل في تخصص علمي أو درجة وظيفية، وقد حدثني أستاذ جامعي أنه تقدم ليشغل منصب أستاذ كرسي في تخصص علمي في قسم الدراسات الإسلامية بإحدى الجامعات الألمانية، ورُفِض طلبه وتم قبول غيره ممن ليس له نتاج علمي ولا مؤهلات كافية في مجاله رغم تَمكُّن الأول من لغة التدريس المعتمدة ورسوخه العلمي ونتاجه المتميز.
2- الحرمان – أحيانا – من التَرقي في السُلَّم الوظيفي في بعض الدوائر، وقد حدثني أحد الثقات أن أحد الشباب المسلم المتميز يعمل في شركة مرموقة وقد تَرَقى بسرعة كبيرة حتى صار بينه وبين منصب مدير الشركة ثلاثة درجات، لكنه بقى مكانه ولم يبرح درجته، ربما يقول البعض هذا ليس دليلا دامغا على ما نذهب إليه، بيْد أن كثرة الروايات في هذا الشأن تنقلها من دائرة الشك والاحتمال إلى القطع بوجودها.
3- يحتل ملف المرأة مكانا هاما عند المجتمع الأوروبي حكومة ومؤسسات مجتمع مدني حتى تبوأت مكانها ومكانتها، وبرهنت عن قدرتها في القيادة والريادة، لكننا نَعْجب من التمييز والإقصاء الذي يقع على المرأة المسلمة بسبب حجابها في حالات كثيرة، وقد ارتفعت وقائع الاعتداء اللفظي والجسدي عليها في أنحاء متفرقة من ألمانيا. ومن الجدير بالذكر أن المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا -وهو أحد المؤسسات الكبيرة والهامة هنا- خاطب وزارة الداخلية بتسجيل حالات الاعتداء على الإسلام والمسلمين لتُسجَّل ضمن معاداة الإسلام أُسوة بمعادات السامية وتم تسجيل 1000حالة اعتداء في عام 2017 هذا فضلا عن كثير من الحالات التي لم يتم الإبلاغ عنها. إن بعض الألمان يتعجب حينما يسمع المرأة المسلمة المولودة هنا تتحدث اللغة الألمانية بلسان ألماني مبين، ويزداد عجبه حينما يعلم أنها حاصلة على شهادة علمية متميزة. وما سِرٌ هذا الاندهاش إلا نتيجة للفكرة السلبية الراسخة مسبقا عن المرأة المسلمة ومستواها المعرفي والمهارى.
4- الضغوط التي يتعرض لها بعض التلاميذ في المدارس ومنها: إصرار بعض المعلمين على عدم أهلية التلميذ على دخول مرحلة Gymnasium (المرحلة المؤهلة للجامعة) على اعتبار أن إمكاناته لا ترقى به. وللمعلم الحق أن يقرر دخول الطفل في المستوى المذكور أولا، إن كان مستوى التلميذ متوسطا، ولكن للأسرة الطعن على قراره، إلا بعض الأسر تستسلم أمام هذا القرار. ولعلي أذكر واقعة في هذا السياق: لقد قررت المعلمة دخول الفتاة الصغيرة مستوى تعليمي لا يؤهلها لدخول الجامعة وكأنها استبطأت عليها ما يُسرع به عقلها وقدراتها الحقيقية التي غضت عنها طرْفها، لكن من تقدير الله تعالى أنَّ أم التلميذة كانت ذو شخصية واعية فتحدَّت المعلمة، وأصرَّت على أن تُدخل البنت المستوى الأعلى فهي أعلم بابنتها وبالفعل كان لها ما أرادت، وبعد سنوات تخرجت طفلة الأمس من إحدى الجامعات المرموقة. تُرى لو كانت الأم غافلة، أو ضعيفة الرأي، أو معزولة عن الحياة، أين سيكون مصير تلميذة الأمس وأم المستقبل؟
5- عدم تَفهم بعض إدارات المدارس للخصوصيات الدينية للطفل والشاب المسلم، كصيام شهر رمضان أو رفض مشاركة الفتاة في درس السباحة أو الاعتذار عن الرحلة المدرسية. والحقَ أقول: أن هناك تَعنُّت ومبالغة وسوء فهم وتقدير من الطرفين، الطرف الألماني والمسلم. فبداية نقول: ليس من حق أحد أن يفرض على الطفل الإفطار في شهر رمضان، وليس من الحكمة أن يَغفل الآباء قدرة الطفل على الصوم وفقه التدرج والتدريب عليه. وعلى إدارات المدارس أن تراعى حساسية الأسرة المسلمة وخصوصيتها ومخاوفها من الرحلات المدرسية وما يُشاع عما يحدث بين التلاميذ في غفلة المشرفين أو تحت سمعهم وبصرهم، كما يجب على الأسرة المسلمة ألا تشطط في الرأي ولا تبالغ في سد الذرائع دون علم وتحقيق وتصور دقيق وعزلة. ويبقى الحوار والنقاش الواسع والمشاركة هو السبيل للتفاهم وتضييق الفجوات وقطع الظنون بيقين التعارف وتقارب الأفكار.
عند تحليل الظواهر الاجتماعية لا نستطيع أن نَرُدها إلى سببٍ أو عاملٍ واحد بل إلى أسباب متعددة، منها:
1- حداثة الوجود الإسلامي بألمانيا- ولا أقصد الجذور القديمة للمسلمين في ألمانيا فهذا ليس مرادي إنما أعنى الوجود الجديد الظاهر حيث تجاوز -الآن – عدد المسلمين خمسة ملايين مسلم، ومن ثم فـ 50 أو 60 عاما لا تعد فترة طويلة، وليس من اليسير تقبل وتأقلم الأكثرية للأقلية الوافدة والمختلفة عنها في دينها وعاداتها وثقافتها في عدة عقود. ورغم وجود المهاجرين اليونانيين الإيطاليين قبل المسلمين إلا أن أبناءهم يعيشون ما يعيشه أبناء المسلمين أيضا كما أشرنا سابقا وان اختلف الأمر عندنا.
جمعني لقاء مع عضو بارز في حزب CDU الحاكم في ولاية هيسن أكتوبر 2018 ببرلمان الولاية تحدث عن مسألة انتماء الإسلام لألمانيا قائلا: متى أقول إن الإسلام ينتمي لألمانيا؟ ثم أجاب: عندما يكون هناك علماء ألمان مسلمين، وعندما يكون سياسيون ألمان مسلمين. ساعتها أقول: الإسلام ينتمي لألمانيا. قلت له: إن اختزالك لشرط انتماء الإسلام لألمانيا في هذين المجالين لهو بخس للحضور الإسلامي الواضح وأثره.. إن العين لا تخطيء الأعداد الهائلة من أساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين والتجار والمعلمين وغيرهم ممن يُؤَثرون إيجابا في دفع عجلة الاقتصاد والتعليم والصحة وغير ذلك، فضلا عن آلاف الجمعيات المؤسسات الإسلامية التي تقوم بدور خدمي تطوعي في سبيل ترسيخ السِّلْم الاجتماعي في ألمانيا.
2- أتصور أن تجربة الانفتاح على الثقافات الأخرى وترسيخ فكرة التعددية لا زال أمامها وقت ليس بالقصير حتى تستقر في وجدان الجماهير. إن الناس تتوجس خيفة من المجهول، ورغم كون المجتمع الألماني غني بالتعددية الثقافية إلا أننا لا زلنا نجهل بعضنا بعضا ورسالة القرآن إلينا: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات. فهل حققنا هذا المقصد القرآني بينننا أولا ثم بيننا وبين مكونات المجتمع؟
3- الصورة النمطية السلبية المستقرة في أذهان كثيرين عن المسلمين ساهمت في وجود مخاوف وحواجز، وتلك الفكرة تعود إلى عدد من العوامل:
– بعض وسائل الإعلام وطريقة معالجتها للأحداث الإرهابية التي وقعت في دول ومدن أوروبية، فعندما يكون الفاعل مسلما فالدافع يكونا دينيا بل تسارع بعض أجهزة الإعلام بإلصاق التهمة والربط بين الحدث والإسلام وانتشرت مصطلحات الإرهاب الإسلامي وغيره. وعلى الجانب الآخر حينما يكون الفاعل غير مسلم غالبا ما يكون الباعث هو المرض النفسي – هكذا يحكمون!، وتُطوى صفحته لغير رجعة. كل هذا يُوقر في الصدور الريبة من المسلمين، كما يحبط كثيرا من الشباب المسلم.
– السلوكيات الخاطئة لبعض المسلمين تُوفر ذريعة لإلصاق التهمة وتأكيد الشبهة، وحالنا لا يسر كثيرا، والسعيد من دان نفسه وراقب ربه، وليتنا نبدأ دوما في مشروع الإصلاح بالخطوة الأولى: "قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ" قبل أن نبحث عن مواطن الخلل وأسباب البلاء خارج إطار الذات.
4- عجز كثير من المسلمين عن التعريف بأنفسهم والدفاع عن حقوقهم، فهم في قرارة أنفسهم غرباء لهذا يظلوا على هامش الحياة. إن هناك الكثير من الفرص المتاحة لإثبات الذات وتأكيد الحضور داخل مؤسسات الدولة الرسمية والمدنية ونقول دوما: أن الفرص المتاحة أكثر من التحديات والعقبات، قد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاوز المشكلات إن اعترضتنا ووقفت مانعا بيننا وبين غاياتنا فقال صلى الله عليه وسلم "استعن بالله ولا تعجز". والإنسان هو الإنسان في جوهره الأخلاقي وفطرته السوية، تستطيع أن تصل إلى عقله فتقنعه، وإلى قلبه فتؤثر فيه وإلى مشاعره فتحركها ما استجمعت المواهب والقدرات والوسائل المناسبة.
الشاب أو الفتاة المولود أو الناشئ في ألمانيا لا يحتاج لاعتراف بأنه ألماني، وبالتالي عليه أن يقبل نفسه كما هو، ولو وجد بعض مظاهر العنصرية فلا يبتئس بما يصنعون |
شعور الشباب المسلم وغيره من الأصول المهاجرة بعدم الاعتراف بوجودهم وأنهم جزء مهم من المجتمع، له آثاره ومآلاته الكثيرة نجملها فيما يلي:
1- ضعف الاهتمام بقضايا المجتمع ومشكلاته والحرص على مصالحه.
2- الانسحاب من العمل العام – هذا إن كانت لهم مشاركة تطوعية خدمية.
3- ضعف المشاركة السياسية وهذا هو حال كثير من مسلمي ألمانيا وأوروبا.
4- التفكير في الهجرة بحثا عن مكان آخر يجد الشاب فيه نفسه وكيانه، يبحث عن وطن يعترف به ويقبله كما هو بلونه وأصوله ودينه.
5- عند شعور بعض المواطنين بعدم الاعتراف سيثمر حالة من النقمة الداخلية، ويولد كراهية مضادة وذلك عند من لا يفصل بين عقله وعاطفته.
6- فقدان المواهب والقدرات، أعرف رجلا عانت ابنته المولودة في ألمانيا من التحيز والإقصاء رغم فوزها في مسابقة للقراءة على مستوى ولاية في ألمانيا سبقت فيها الجميع ولأن أصولها وملامحها عربية نالها الأذى، وللأسف الشديد لم تتحمل الفتاة هذا الحصار فدخلت في نوبات نفسية أفقدها الكثير من طاقتها الذهنية والنفسية.
1- أن نثق في أنفسنا ولا نستجدي الاعتراف من أحد، فالشاب أو الفتاة المولود أو الناشئ في ألمانيا لا يحتاج لاعتراف بأنه ألماني، وبالتالي عليه أن يقبل نفسه كما هو، ولو وجد بعض مظاهر العنصرية فلا يبتئس بما يصنعون. وبالتالي لا يقدم أي تنازلات أو يساوم على مبادئه. و"قصة يوسف عليه السلام سبيل المواطنة الحقيقية" لم يبحث سيدنا يوسف عن اعتراف من المجتمع ورغم قسوة السجن ومرارة الافتراء إلا أنه لم يفتر عن النصح لقومه وإضناء الفكر لإنقاذ الحرث والنسل بما آتاه الله من العلم والحكمة وتأويل الأحاديث.
2- علينا أن نبصر المساحات الواسعة في المجتمع الألماني والشركاء الذي يرفضون كل مظاهر العنصرية، ويبعثون برسائل إيجابية وما يجب الإشادة به التصريحات الصادرة من كافة مستويات الدولة حول انتماء الإسلام لألمانيا، بداية من الرئيس الألماني السابق والرئيس الحالي وكذلك تصريحات المستشارة أنجيلا ميركل، فضلا عن التهنئة بأعيادنا ودعوة ممثلي المسلمين في لموائد شهر رمضان. وأما عن المؤسسات التي تعمل على التحقيق التعايش والحوار بين مكونات المجتمع فهي كثيرة وتبذل جهودا كبيرة تُذكر ولا تُنسى، وتُشكر ولا تُجحد.
3- استحضار البعد الرسالي للمسلم في الأرض ودوره الإصلاحي يجعله حاضرا ومتفاعلا مع قضايا وهموم المجتمع ويتجاوز حالة المظلومية والاضطهاد إلى الشعور بالمسؤولية والبحث عن دور يستطيع أن يقدم فيه النموذج المسلم المتحقق بالرحمة العالمية.
4- التَميز المهني، والتفوق الدراسي، والتألق الأخلاقي، والتفاعل المجتمعي طريق للمواطنة الكاملة.
نتطلع إلى مجتمع متوحد في أهدافه الكبرى، متسامي بأخلاقه الإنسانية، متكامل بقدراته ومواهبه، متحاور في المختلف فيه، متعاون على ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.