شعار قسم مدونات

فلسفة الدين.. هل هي عودة للميتافيزيقيا؟

blogs صلاة

أردت قبل أن ألج إلى موضوع "فلسفة الدين" أن أسجل بعض المقدمات الإبستيمة للدراسة، أعتبرها جد مهمة لفهم الموضوع من حيث بعده الإشكالي وآليات طرحه وتحليله، وكذا وضع الموضوع ضمن حقوله المعرفية حتى لا يصبح التعاطي معه مجرد "موضة عابرة"، كما هو الحال بالنسبة لكثير من القضايا الفلسفية المعاصرة في الفكر العربي المعاصر.

 

وقبل أن أسرد تلك المقدمات استوقفتني حكاية فلسفية لكانط، مفادها أن رجلاً عاش مع زوجته أكثر من أربعين سنة في وفاق وشقاق، ترح وفرح، اتفاق واختلاف، بساطة وتعقيد، …. وذات يوم قرر أن يتعرف على امرأة جديدة بعدما قتله الروتين، وسحقته العادة وحياة الرتابة، فاختار الذهاب إلى دار الأوبرا التي تعج بالجميلات والسّيدات الأنيقات… فلبس لباسا أنيقا، ورش عطرا جذابا، واختار مقعدا يمكنه من مشاهدة النّاس عن كثب، ولما بدأت الأوبرا كان بصره يجول في أرجاء القاعة، لعله يقتنص امرأة تنسيه هم وغم الزوجة، فوقع بصره على امرأة كانت تلبس لباسا فاخرا، وتبدو عليها ملامح النبل والشرف… فأشار إليها وأشارت إليه… ففرح صاحبنا بذلك، فأشار إليها بأنه سينتظرها عند مخرج الأوبرا، فأشارت بالموافقة…

 

ينطلق هيجل في تأسيسه لمجالات الفلسفة من ثلاثيته الشّهيرة، وهي أن الفكر يتمظهر ويتجلى في الفن والدين والفلسفة عبر تاريخ الأفكار

خرج صاحبنا وانتظرها عند الباب الرئيس، وما هي إلا دقائق حتى ظهرت المرأة، وما إن اقتربت منه حتى كاد صاحبنا يسقط أرضا، لقد كانت زوجته والتي بادرته: ألهذا الحد اشتقت لي؟ يريد إيمانويل كانط من خلال هذه الحكاية أن يبين لنا أن الفلسفة تشبه تلك الزوجة، وأن الفيلسوف كلما أراد أن يهجر زوجته (فلسفته) فإنه حتما يعود إليها آخر الأمر من حيث لا يدري، وبمعنى آخر أن كل فلسفة حاضرة وظاهرة ما هي في حقيقة الأمر إلا تلك الفلسفة التي عرفناها سابقا، والجديد فيها يكمن في المظاهر والمصطلحات والتعابير التي أضفناها إليها.

 

أردت من خلال هذه الحكاية الكانطية أن أقول بأن كثيرا من "الفلسفات" التي ظهرت في القرن العشرين والحادي والعشرين ما هي إلا أوجه لفلسفات قديمة وحديثة، حاول البعض تجميلها وتقديمها بصورة مغايرة لما كانت عليه. واعتقد أن "فلسفة الدين" ما هي إلا وجه من تلك الوجوه المُعدلة. أود من خلال تقديم المقدمات الأتية فهم موضوع فلسفة الدين بعيدا عن الترويج والتوظيف، فما يُسمى "فلسفة الدين" لا يخرج عن محاولة خلق موضوعات للفلسفة في زمن التيه الشرود.

 

وقد استطاع المفكر محمد عثمان الخشت أن يجعل منها فعلا موضوعا متميزا، وخاصة أنه ربطها بمسألة الإيمان وأزمة الوجود، فعصرنا خاصة هو الذي دفع الفلاسفة والعلماء للخوض في مسائل الدين بصور مغايرة لما كان يُطرح: "عندما يشعر الإنسان أن المادةَ وحدها غير كافية لتفسير الوجود، فإنّه يكون على أعتاب الإيمان. وعندما لا يكتفي بالمتناهي ويسعى نحو اللامتناهي، فإنه يكون قد غادر تماما التفسيرات المادية للوجود، وبدأ في التماس مجال معرفي آخر يُقدم له تفسيرا مرضيا عن العالم والإنسان والله. وهذا المجال المعرفي قد يكون الدين، وفد يكون الميتافيزيقا، وقد يكون الإثنين معا".[1]

 

ينطلق هيجل في تأسيسه لمجالات الفلسفة من ثلاثيته الشّهيرة، وهي أن الفكر يتمظهر ويتجلى في الفن والدين والفلسفة عبر تاريخ الأفكار. ويجب القول أول الأمر بإن "فلسفة الدين" تدين في نشأتها الأولى إلى أعمال كل من كانط وهيجل، وخاصة هيجل الذي حاول من خلال مشروعه المثالي أن يختصر الوعي البشري في ثلاث تجليات رئيسة:

1-الفن: الخطوة الأولى للوعي البشري، تجلى في ظاهرة التمثيل، وتعتبر الدّيانات الوثنية من أولى التجارب.

2-الدّين: الخطوة الثانية في إدراك المطلق وذلك بواسطة البيان واللغة، وسماه باللحظة الرمزية.

3-الفلسفة: اللحظة الأخيرة للوعي البشري، تمتاز بالعقل وتجليها التجريد.

ومن خلال هذا الطرح يبدو أن ما قدمه هيجل هو ما نراه يتجسد اليوم في فلسفة القرن الحادي والعشرين، فجل الفلاسفة المعاصرين يتفقون أن الفلسفةَ اليوم يكتسحها مبحثان، مبحث الفن والجمال، ومبحث الدين والتأويل. بينما في القرن المنصرم طغى على المشهد الفلسفي مباحث الإبستيمولوجيا ومباحث اللغة.

 

يعتقد بعض فلاسفة الألفية الثالثة أن فلسفة الدين ما هي إلا مجرد عودة للميتافيزيقا بعد أن أعلن فلاسفة العصر الحديث موتها ونهايتها، وفي الوقت نفسه، ما هي إلا محاولة إحياء الماورائيات في زمن هيمنة التقنية والعلم على الحياة البشرية

يتمحور الإشكال حول القضية التي طُرحت بجامعة أوكسفورد ثم جامعة فيكتوريا، وتتلخص في قضية أننا حين ندرس بعمق فلسفة الدين فنحن نؤكد وجود فلسفة بدون فلسفة، وهي التي طرحها كل من بول درابر (Paul Draper) وكيفن جون هارت (Kevin John Hart)، وأيضا (Graham Oppy) غرهام أوبي. بينما طرحت لدي العرب على أن فلسفة دين هي فلسفة عقلانية، كما يحاول الخشت أن يؤسس لها. ويمثل هؤلاء الثلاثة التيار اللاهوتي الذي أعلن نهاية فلسفة الدين The End of Philosophy of Religion، بينما يُمثل الخشت التيار العربي الذي يرى أن فلسفة الدين فلسفة قائمة بذاتها ولها مستقبل في قابل القرون.

 

من خلال تاريخية مفهوم "فلسفة الدين" نكتشف وجود جدل بين لحظة البداية ولحظة النّهاية، فلحظة البّداية تميزت بالقول بوجود فلسفة الدّين والمنافحة عنها بشتى الطرق والوسائل، وقد مثل هذه اللحظة بالذات كل من: وليام وينرايت، ويليام رو، بريان دافيز، الذين دأبوا على تقديم فلسفة الدين على أنها فلسفة القرن، بينما سنرى أن لحظة النّهاية سيمثلها كل من وليام لين كريج William Lane Craig، نيك تركاكيس Nick Trakakis، وبول داربر.

 

يمكن القول ومن خلال ما سبق، بأن كثير من الدارسين المعاصرين بشروا بفكرة عودة الدّين في الألفية الثالثة بالخصوص، وقد حاول كثير من المفكرين فهم هذه الظاهرة من خلال دراسة تمظهرات العودة إلى الدين، فتشكلت مع نهاية القرن العشرين عدة ظواهر لا تمُت بصلة إلى التّدين والالتزام، فكثرت الفرق والنحل الدينية والجماعات في كل العالم. كما انبثقت خطابات ذات طابع ديني محض، مما مهد لتنامي ما يسمى حاليا بفلسفة الدين: "ولو ألقى المرء نظرة على مواقف الفلاسفة من توماس هوبس إلى حدّ نيتشه التي اتّخذوها من الأديان التاريخية، لأمكن له أن يتحدّث عن قلْب قويّ جدّا للموقف الذي تمّ الانطلاق منه. ففي البداية، تمّ الحطّ بشدّة من قيمة كلّ دين تاريخي، وذلك عن طريق عقل مفكّر ومتفكّر. أمّا في النهاية، فإنّ الأديان التاريخية قد تحوّلت إلى مصدر لفهم الذات ولفهم العالم أعلى شأوًا من التفكير المستنير".[2]

 

يعتقد بعض فلاسفة الألفية الثالثة أن فلسفة الدين ما هي إلا مجرد عودة للميتافيزيقا بعد أن أعلن فلاسفة العصر الحديث موتها ونهايتها، وفي الوقت نفسه، ما هي إلا محاولة إحياء الماورائيات في زمن هيمنة التقنية والعلم على الحياة البشرية لأجل الهروب إلى الوراء، ومن جهة أخرى يعتقد البعض أنها مجرد احتيال على التاريخ من أجل إيجاد موضوعات للفلسفة في زمن شرودها وتقلص موضوعاتها. ودليلهم في ذلك أنه عندما ندرس متون فلاسفة الدين المعاصرين لا نجد اختلافا عما طرحه الأقدمون، لا من حيث القضايا ولا المفاهيم، ولعل الفرق الوحيد الذي نراه يتمثل في استعمال مناهج معاصرة فحسب.

 

 مراجع:

[1] – الخشت، محمد عثمان، المعقول واللامعقول في الأديان، نهضة مصر للطباعة، القاهرة، 2006، ص: 3.

[2]- هانس صاند كولر، مدخل إلى فلسفة الدين، ترجمة: فتحي المسكيني، الناشر مؤمنون بلا حدود، المغرب، 2017، ص: 15.