من خلال رحلتنا الطويلة في الحياة نخوض حروبا لا تنتهي، نعيش لحظات قاسية، ونمارس الحياة في أبشع صورها، وأحيانا تعطينا الحياة نوعا من البهجة من خلال بعض اللحظات التي تمنحنا فيها ما نريد، لكن ما نريد يتجاوز ما نستشعره في لحظة معينة، ويصبح مرتبطا بما يمكن أن يظل معنا دائما، وبما يمكن أن يضعنا في المسار الصحيح من الحياة، وهذا يدفعنا لطلب المزيد من الحياة، وهذا المزيد يكون مشروطا بما يمكن أن يجعلنا نستمتع به على نحو واسع، وما يمكن ان نتلذذ به لأطول لحظة ممكنة، وما يمكن أن يقوي من علاقتنا بالحياة، أي كل ما يمكن أن يظل عالقا في ذاكرتنا، وأن يرافقنا حيثما نكون، وعندما نتذكره، يأخذنا الحنين إليه، ويجبرنا على طلب المزيد من الحياة.
ونحن لا نطلب المزيد من الحياة إلا عندما ندرك جيدا مدى ما تفرضه الحياة من قوة وعنفوان، وندرك ما يلزمنا أن نتشبث به في اللحظة التي تعترينا فيها الحياة، إذ ليس من الحكمة أن نطلب الحياة ونحن لا نملك إليها سبيلا، وعندما نستشعر وجودنا في الحياة بكل ما ملكنا من شعور، فإن الحال قد حان لكي نرى أي الطرق يجب أن نسلكها لكي ننجح في اختبار الحياة، وهو اختبار ليس سهلا كما يعتقده أولئك الذين لم يدركوا بعد أننا وجدنا في الحياة لكي نعيشها، فإذا كان لزاما علينا أن نعيش ما دمنا على قيد الحياة، فإن الأمر يتطلب أن نمتلك مجموعة من القواعد التي من شأنها ان تعطينا الحياة بالشكل الذي نشتهي.
ربما يجب أن نتوقع دائما الأسوأ من الحياة، بدل من توقع الأفضل، فإذا توقعنا الأفضل وحصل الأسوأ، ستزداد نسبة صدمتنا، أما إذا حصل الأفضل فلن نتلذذ به كثيرا، لأننا توقعناه في الأصل |
من بين القواعد التي ينبغي اعتمادها في ممارسة الحياة، لا بد من أخد الحياة بنوع من الجنون، وليس الجنون بمعناه السلبي، بل الجنون الذي يجعلنا نمارس نصيبنا من الحياة بنوع من العبث، وهذه الممارسة تتطلب أن لا نعير الحياة أدنى اهتمام، وأن لا نكترث لكل ما من شأنه أن يعيق مسارنا في الحياة، وأن يجعلنا نندب حظنا العاثر فيها، وأن لا نتوقف فجأة بمجرد ما يتم عرقلتنا لأي سبب من الأسباب، أن نمارس الحياة بجنون يعني أن نستمر في الحياة بكل ما فيها من أحزان ومآسي وهموم، وأن نتقبل كل ذلك، وأن نعتبره جزء لا يتجزأ من مسارنا داخل الحياة، وهذا الجنون هو الذي يجعلنا نبتسم في كل مرة يتوقف فيها قطار حياتنا بسبب عطب قد يكون خارج من إرادتنا، فطلب المزيد من الحياة يتطلب المزيد من الجنون، والمزيد من الجنون يستدعي المزيد من اللامبالاة.
يفرض علينا منطق الحياة أن نكون واقعيين إلى أقصى حد، إذ لا يعقل أن نمارس الحياة بنوع من الخيال، ونوع من المثالية الزائفة، كما لا يعقل أن نعيش الحياة في ظل الأوهام، كل ذلك يدفعنا لكثرة الصدمات، ولتجاوز ذلك لابد من ممارسة الواقعية في الحياة، أي أن نأخذ الأمور كما ينبغي، وبالشكل الذي هي عليه، أن نأخذها كما هي، وأن نتعامل معها بالطريقة الفعالة، ولما تطلب الأمر أن ننظر إلى الأمور من زاوية واقعية، كان لزاما أن نتريث في نظرتنا، وأن نؤسس نظرتنا للحياة بشكل عام من خلال نظرة مبنية على الواقع الذي انتقيناه من كل الغموض، واصطفيناه من كل ما من شأنه أن يضبب الصورة قليلا، ذلك أن الواقع يفرض علينا أن نكون واقعيين، وأن الحياة تجبرنا على ممارستها بكل ما أوتينا من واقعية.
ربما يجب أن نتوقع دائما الأسوأ من الحياة، بدل من توقع الأفضل، فإذا توقعنا الأفضل وحصل الأسوأ، ستزداد نسبة صدمتنا، أما إذا حصل الأفضل فلن نتلذذ به كثيرا، لأننا توقعناه في الأصل. أما إذا توقعنا الأسوأ، وحصل الأسوأ، فلن يؤثر علينا سلبا، لأننا وضعنا الأمر نصب أعيننا، أما حين يحصل الأفضل في اللحظة التي نتوقع فيها الأسوأ، فإننا سنتلذذ به أكثر، وسنتذوقه كما ينبغي، على عكس الأمور التي توقعناها أن تكون أفضل، وخاب ظننا، وعكرت مزاجنا، ولهذا لابد من وضع احتمالية توقع الأسوأ دائما، حتى لا نضيع في متاهات توقع الأفضل، وحتى لا ننصدم عندما لا يحصل التوقع كما توقعناه، هكذا يجب أن نتعامل مع الحياة وفق منطق توقع الأسوأ، لأن الحياة ليست كريمة لتعطينا كل ما نتوقعه بسعة صدر.
يبدو أنه من الصعب أن نجد معنى خاصا بالحياة، كما يصعب أن نعطي معنى خاصا لها، ربما منطق الوجوديين يسير هكذا، لكن الواقع يوافق فكرتهم تلك، ويضعنا أمام مسألة التعامل مع الحياة بنوع من العبث، وليس العبث بالطريقة التي يفهمها بها عامة الناس، وهي الطريقة المبنية على الفوضى واللانظام، بل إن الحياة لا تكتمل إلا في ظل النظام والانتظام والتناسق، أما العبث الذي تستلزمه الحياة من منظور العبثيين فهو يتأسس على فقدان المعنى الخالص للحياة، فلما كان الأمر كذلك، كان لزاما أن نمارس الحياة بعبثية، لعل الأمر يكون بمثابة نوع من المعنى الذي يصعب وضع الحياة في إطاره.
لعل وجودنا في الحياة ليس بسيطا وسهلا كما يتصوره البعض، بل إنه أعقد مما نتصور، ويستدعي نوعا من الحكمة لانتقاء هذا الوجود، ومن أجل ذلك لا بد أن يسعى المرء بكل ما أوتي من وجود لكي يحقق ذاته أولا وقبل كل شيء، ولهذه الغاية لابد من أن يضع كل الممكنات التي من شأنها أن تدفعه لكي ينجح في اختبار الوجود، وهو الاختبار الذي يمكن أن يحقق من خلاله ذاته، ومن خلاله يمكن أن يدرك المرء وجوده بشكل انتقائي، وهو الوجود الذي يمكن أن يشعره بأنه موجود.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.