شعار قسم مدونات

لنتجاوز جدلية التهنئة ولنبدأ عامنا الجديد مع القرآن!

blogs قراءة القرأن

كثيرًا ما نسمعُ قولًا يتردَّدُ على الألسنِ بعاميتنا: "لا تدّخْلوا الدين بكل شيء"، وللعبارة مضامين كثيرةٌ فعْلًا، ولكنني لم أشعرْ بالارتياح لهذا القول، حتى لو وقعَ على قائله ظلمٌ اضطُرَّه لقولِه، فلا يبرُّر لنا وقوعُ ظلمٍ علينا أنْ نمارِس ظُلمًا آخر، فنحنُ بذلك نزيدُ منْ عُمقِ الأزمة ونرسِّخُ ثقافة الندية والضدِّية بعيدًا عنْ أيِّ نقطةٍ للتلاقي والتصالح، فالدينُ ليس طقوسًا نُحْيِيها مُناسبةً ولا مظاهرَ نتمثَّلُها زينةً وزُخْرفًا ولا أقوالًا نتلوها فصاحةً ولا تراتيلَ ندندِنُها طربًا، بل الدينُ عاملٌ في كلِّ مناحي الحياة، رسمٌ دقيقٌ لكلِّ تفاصيلها، ولا ينحصرُ في لِحيةٍ ولا نقابٍ أو خمارٍ أو جلبابٍ شرعي، ولا في صلواتٍ خمسَ نصليها جماعةً، ولا في ختمات متتالياتٍ للمصحف، ولا في عبادة يتيمةٍ في شهر رمضان، الدينُ قواعدُ للحياة، في نطقك وتفكيرك وتعاملاتك وتحصيلك العلمي والعملي وفي عاطفتك وإحسانك، وفي أدبك وتواضعك، وفي ذكائك وإتقان صنعتك، وفي قراءتك وثقافتك وفهمك وذوقك.

 

الدينُ دستورٌ عاملٌ حتى في أدقِّ الأمور، وليس في ذلك ثِقَلٌ أو تشديد بل إنَّ أحكامَه وتشريعاتِه ضمنتْ لنا سلاسةَ التطبيق وأراحتْنَا من تعقيداتِ الشرائع دونَه، ويكفيكَ منها أنَّ الأصلَ في الأشياء الإباحة وهذا قول ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى": "اعلم أنَّ الأصلَ في جميع الأعيانِ الموجودةِ على اختلاف أصنافِها وتباينِ أوصافِها: أنْ تكونَ حلالَا مُطلَقًا للآدميِّين، وأنْ تكونَ طاهرةً لا يُحرم عليهم ملابستُها ومباشرتُها ومماستُها، وهذه كلمةٌ جامعة، ومقالةٌ عامة، وقضيةٌ فاضلةٌ عظيمةٌ المنفعة، واسعةُ البركة، يَفزعُ إليها حَمَلةُ الشريعة، فيما لا يُحصى من الأعمال، وحوادث الناس، وقد دلَّ عليها أدلةٌ عشرة -ممَّا حضرني ذكره من الشريعة– وهي: كتابُ الله، وسنةُ رسوله، واتباعُ سبيلِ المؤمنين المنظومةِ في قولِه تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ } وقولِه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، ثمَّ مسالكُ القياس، والاعتبار، ومناهجُ الرأي، والاستبصار".

 

ولكنَّنا للأسفِ كثيرًا ما نعيشُ أزمةَ التطرُّفِ على صعيدَيْه التشدُّدِ والتحلُّل، وتدور الأحكامُ بالدين وعليه حولَ ذلك، فالمتشدُّدُ يضربُ بسيف فهمِه للدين ويتقي المُتحلِّلُ من تلكَ الضرباتِ بدرعِ سخطِه على الدين -وإنْ كانَ في الحقيقة يمارسُ سخطَهُ على أولئك المُتشدِّدين- وتستعِرُ الحربُ لتمارِسَ تشويهًا بحقِّ الدينِ نفسِه تاركةً آثارَها وانعكاستِها السلبية على الرأي العام بِشقَّيهِ المحليِّ والعالميِّ، كما أنَّها تزيدُ من عمقِ الشرخِ بينِ التيارات الإسلامية المختلفة من جهة وبينهم وبين ثقةَ النَّاسِ في أحكامهم من جهةٍ أخرى، وهذا ما حصلَ تحديدًا في قضية التهنئة بأعياد غيرِ المُسلمين تاركةً صدْعًا في جدار تماسكِ الأمة يضافُ إلى كثير غيره حتى على الصعيد السياسيِّ، ولستُ هنا أغلِّبُ رأيًا على رأي -وإنْ كنتُ أتبنَّى رأيًا حول ذلك- ولكنَّني أرى أولوياتٍ تتصدرُ قائمةَ الواجبات والاهتمامات غيرَ الفصلِ في حكم التهنئة، وأبرزُها أنْ نكونَ حول القرآن، حول ما يجمعُنا ولا يفرِّقُنا -إلَّا منْ أبى-، فكثيرونُ حولَ الإفتاءِ والإدلاءِ وقليلونَ حول الفهمِ والتدبُّرِ والتبصُّر.

 

جدِّدْ حياتَك بتركِ كلِّ معصية، جدِّدْ إيمانَكَ بالإخلاص، اغسل كدَرَ أيَّامِك بالإذعانِ له، أعزَّ مقامَك بالجلوسِ بين يديه، اقصُده في كلِّ حال بالاستعانة، شُدَّ عضُدَكَ بالاتكالِ عليه

مع بداية كلِّ عامٍ يكثرُ الوداعُ للعام المنصرِم، منَّا منْ يتذكرُ الخيباتِ ومنَّا منْ يتْلو النجاحات، ونتعاهُدُ مع قلوبنا على بدايةٍ أفضلَ مع حلولِ عامٍ جديد، ولكنَّنا نتساءَلُ من أينَ نبدأ، ونعيشُ حيرةً عشناها في أعوامِنا المنقضية، وتتكرَّرُ التساؤلاتُ ذاتُها، وللأسفِ نستحضِرُ مُسلسَلَ الفشلِ فيما مضى، ثمَّ نُلقي بيأسِنا على العامِ الجديد وإنْ كانَ يأسًا بلباسِ الفكاهة الساخرة، ولكنَّه يعبرُ عنْ جملة آلامِنا المُتكدِّسة على شفا يأسِنا المتثاقِل من مخاضٍ عسيرٍ يدفعُنا للسقوط، ولكنَّها يدُ الله تمتدُّ لأيدينا لتنقِذَنا منْ كلِّ كربٍ حلَّ بنا أو قدْ يحلُّ، تلك بشرى القرآن لنا، فبهِ حقَّ أنْ نبدأ ونقول لكلِّ خائفٍ ومُتوجِّسٍ من البدايات: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ}، فإياكم أنْ تشركوا معه أحدًا وفرُّوا إليهِ مُوحَّدين!

 

ابدأ عامَك الجديد كما بدأ القرآنُ آيَهُ فقال عزَّ وجلَّ من قائل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فابدأ عامَك بشكرِه وحمدِه، على ما أنتَ عليه، على نعمةِ الإدراك والفهم، على اصطفائك على سائرِ ما خلق، على كونِك على قيدِ الحياةِ تشهدُ عامًا جديدًا، على أنَّك لا بُدَّ في نعمةٍ تدريها وأُخر لا تُحصيها، على ما ميَّزَك به، على ما أعطاكَ منْ قدرة، وما منحَك من هبة، على عمل اللسانِ والجوارِح دونَ حولٍ منكَ ولا قوة، ابدأ عامكَ بالشكرِ يُكتب لك فيه الخيرُ والبركة: {إِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ }، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}، وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أنْعَم اللهُ على عبدٍ نعمةً فقال: الحمدُ لله إلَّا كانَ الذي أعطى أفضلَ ممَّا أخذ." ابدأ عامَك باستشعارِ معيِّةَ الله وقدرتِه، فهو ربُّ العالمين، وربُّ كلُّ شيء، وقدْ أحاطَ بكلِّ شيءٍ عِلمًا فلا يَخفى عليه حالُك وأمرُك، ما تشكو وما تُضمِر، ما يُرهقك ويشغلُك، {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}، ذلكُ الحزنُ في جوفِ قلبكَ يعلمُه، ذلك الهمُّ الذي لا يدركُه سواكَ هو يدركُه، ما اختلجَ وجدانكَ وما قضَّ جدرانك، ونقضَ بُناينك يعلمُه، فلن يبخلَ عليك برحمتِه، كيف يفعلُ -حاشاه-؟ {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ}.

 

أما زلتَ ترى عجزكَ وضعفكَ صورةً أمامك تتمثُّل لتُمْليَ عليك خنوعًا وذِلَّة، لتُرهبَكَ مِنْ بطشِ الجبارين، لتحاصرِك في خوارِك، وتزيدَ عليكَ خِناقَ وهَنك، لا حولَ لك ولا قوَّة، ولا تملُكُ من الحيلَة إلَّا قليلًا، تَراكَ فقيرًا معدومًا لا تقدرُ على شيءٍ ممَّا يقدرُ عليه ثلَّةٌ من النَّاس؟ فالله يخبرُك ويجيبُك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، هو الحائزُ والمُتصرف، هو فوق كلِّ الجبابرة، حياتُك بين يديه وحده ولو اجتمعت الناسُّ كلُّها على أمرٍ لم يرِدُه فما كان له أنْ يكون، فهو القادرُ على جبرِ كسرِك، وإقامةِ صلبِك، {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}، فأيُّ عجزٍ لا يتهاوى أمامَه؟! فمن المهد حتى اللحد حياتُك بين يديه، وكيفَ يؤرِّقكَ زمانٌ أو عدٌّ أو إحصاء وهو مالك اليوم، ومالك الزمن المُطلق، ومالك يوم الحساب، فلا حسابَ له حسابٌ إلا حسابُه، {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.

 

ابدأ عامَك الجديد باختيارِ صحبةٍ صالحة، بأولئك الذين يشدُّون عضُدَك، بأولئك الذين عرفوا الحق وثبتوا، أولئك الذين لم تُبدِّلهم نوائبُ الدهر ولا نوازِلُ الزمان، أولئك الذين إنْ رأوكَ أخطأتَ قيَّموك
ابدأ عامَك الجديد باختيارِ صحبةٍ صالحة، بأولئك الذين يشدُّون عضُدَك، بأولئك الذين عرفوا الحق وثبتوا، أولئك الذين لم تُبدِّلهم نوائبُ الدهر ولا نوازِلُ الزمان، أولئك الذين إنْ رأوكَ أخطأتَ قيَّموك
 

وهل تبدأُ عامَك الجديد وما زال في قلبِك للطغاة عبودية وذلة؟! وهل تبدأُ عامكَ بخنوعٍ وانكسار؟! وهل تبدأ عامَك وفي قلبِك رجاءٌ أو خوفٌ لغيرِ الله؟! وهل تسترجي من أحدٍ غيرِه شيئًا؟! فإن كثر خاذلوك فإنَّه لن يخذلك، وإن أقفلوا دونك الأبواب، فإنَّ أبوابَه مُشرعةٌ لكَ دومًا، امدُدْ يديْكَ إلى السماءِ وقلْ له مِنْ عمْقِ ذلك الألم الذي يسكنك، من أنَّاتِ تلك الغصَّة التي تعتصرُك، من قلبِ تلك النِّعمِ التي أفاضَها عليك، من ثباتِك ويقينِك على ما بايعتَه عليه العام الماضي، ارفعْ يديكَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، جدِّدْ حياتَك بتركِ كلِّ معصية، جدِّدْ إيمانَكَ بالإخلاص، اغسل كدَرَ أيَّامِك بالإذعانِ له، أعزَّ مقامَك بالجلوسِ بين يديه، اقصُده في كلِّ حال بالاستعانة، شُدَّ عضُدَكَ بالاتكالِ عليه، أوكلْ أمرَك إليه: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}، وكما قدَّم "إِيَّاكَ" على "نَعْبُدُ" وعلى "نَسْتَعِينُ" في اللغة فقدِّمه أنتَ على من دونه في حياتِك تطبيقًا ومعنى، وبذلك تجدُ السعادة وتهتدي لسبيله، إلى جادَّة الصوابِ إلى اعتدالٍ لا عِوجَ فيه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.

 

ابدأ عامَك الجديد باختيارِ صحبةٍ صالحة، بأولئك الذين يشدُّون عضُدَك، بأولئك الذين عرفوا الحق وثبتوا، أولئك الذين لم تُبدِّلهم نوائبُ الدهر ولا نوازِلُ الزمان، أولئك الذين إنْ رأوكَ أخطأتَ قيَّموك، وإنْ زللتَ لم يخلعوك، وإنْ أقبلتَ أحبوك وإنْ أدبرتَ حفظوك، وما فعلوا ما فعلوا إلا لأنَّهم عرفوا الحقَّ فلزموه، ولأنَّهم أيقنوا أنَّه لا استقامة إلَّا بالحق، أولئك الذين بالحقِّ ارتقوا وسمَوا: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، فلمْ يقُل صِراط الأنبياء ولا صِراطَ الصالحين، بلْ صراطُ كلِّ مَنْ أنعمَ عليه بهديِ الحقِّ بالدين الخالِص، فالدينُ نعمة وأيَّما نعمة، فإذا عرفتَ فالزم! ولا تحِدْ عن الطريق، فالحيدُ عنها مهلكة ولا تقفْ على الحِياد، بل ارفعْ شعارَ: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ}، واسنُدْه بالخُلقِ الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وأعظمُ الخلُقِ تأدُّبكَ مع الله فتنسُبَ له الخير وتتحامى أن تنسُبِ له الشرَّ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، كما كان اللفظ "أَنْعَمْتَ" منسوبًا لله وَ "الْمَغْضُوبِ" اسمَ مفعول، فهذا تأدُّب اللغة وأنتَ بالتأدُّبِ أولى! قال بعضُ المفسرين: بأنَّ المُرادَ بالمغضوبِ عليهم مَنْ فسدتْ إرادَتُهم حيثُ عَلِموا الحقَّ ولكنَّهم تركوه عنادًا وجحودًا، وأنَّ المُرادَ بالضالين مَنْ فقدوا العِلمَ فهم تائهون في الضلالات دون أنْ يهتدوا إلى طريقٍ قويم.

 

كانتْ هذه فاتحة الكتاب فلتكن فاتحةِ عامك كذلك، وما كان هذا إلا يسيرًا ممَّا حوتْهُ من معانٍ أخَّاذة، فيها طريقٌ مستقيمٌ أحرى بك التزامه، اتلُها واعقلْها وقلْ آمين في الختام، وقلْ آمين على أحلامك وطموحاتك وقلْ آمين على درب الحقِّ وهديِ الصالحين وقلْ آمين على عامٍ جديدٍ مليء بكرمِ الله وفضلِه!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.