للأسف غاب عن مسامع الكثيرين أخبار تلك الثلّة المؤمنة التي لا تستطيع أداء شعائرها الدينية بحرية من مسلمي الإيغور، وكأننا نعيش في عصر محاكم التفتيش التي انتشرت في الأندلس بعد انهيار الإمبراطورية الإسلامية، حيث كان يُحارب الإنسان الذي يخالف الديانة الكاثوليكية، ويُسجن ويُعذَّب وقد تصل عقوبته إلى الإعدام، كل هذا يحدث وغيره كثير، والعالم للأسف في سُباتٍ عميق، كأنه لا يسمع ولا يرى، وقد غابت منظمات حقوق الإنسان، حتى الأمم المتحدة لم تعد تبدي قلقها كما هو معتاد، وبات معظم المسلمين _إلا من رحم ربي_ في غفلة عن إخوانهم ممن ينتسبون لنفس دينهم، مخالفين بذلك قول النبي ﷺ: "إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
تعود أصول الإيغور إلى الشعوب التركية حيث أنهم قومية من آسيا الوسطى ناطقة باللغة التركية وتعتنق الإسلام، ويشكلون نحو 45 في المئة من سكان إقليم شينجيانغ الذي كان يُعرف بــ "تركستان الشرقية" في أوائل القرن العشرين حين أعلن الإيغور استقلالهم لفترة وجيزة، في حين تبلغ نسبة الصينيين من عرقية الهان نحو 40 في المئة، وقد اتخذت العلاقة بين الإيغور والصينيين طابع الكر والفر، حيث تمكَّن الإيغور من إقامة إقليم تركستان الشرقية الذي ظل صامدًا على مدى نحو عشرة قرون قبل أن يخضع لسيطرة الصين الشيوعية عام 1949 ويتحول اسمه إلى "إقليم شينجيانغ"، ومنذ ذلك الوقت صار الإقليم تحت المراقبة الصارمة ودفعوا إليه بعرق "الهان" الذي أوشك أن يصبح أغلبية على حساب الإيغور السكان الأصليين؛ خوفًا من تكرار محاولة الاستقلال التي يحلم بها الإيغور.
بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 كثَّف النظام الصيني من حملة مطاردته للاستقلاليين الإيغور وتمكن من جلب بعض الناشطين الإيغور خصوصًا من باكستان وكازاخستان وقيرغزستان في إطار ما يسمى بــ "الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب". وعلى الرغم من أن المادة رقم (36) من دستور جمهورية الصين الشعبية تنص على أن: "كل مواطن صيني له حرية العقيدة والدين، والدولة تحمي الشعائر الدينية للمواطنين العاديين"، إلا أن الصين لا تزال تمارس العديد من الضغوط على المسلمين.
لمَّا كانت الصلاة ممنوعة كليًا على الإيغور مثلهم في ذلك كالأتراك في عهد أتاتورك، فقد وجدوا طرقًا لا تلاحظها السلطات، مثل الصلاة سرًا أثناء الجلوس على كرسي، أو الصلاة تحت إحدى الأشجار |
فإذا كنت من مسلمي الإيغور فغير مسموح لك امتلاك خيمة أو بوصلة أو طعام فائض أو حساب واتس آب، كما سوف نتعرف معًا على بعض الأمور التي تعد بمثابة جريمة نكراء في حال إذا قام بها أحد مسلمي الإيغور في نظر السلطات ومنها على سبيل المثال، تناول الفطور قبل طلوع الشمس والامتناع عن التدخين والامتناع عن شرب الخمر والبكاء في الأماكن العامة عند وفاة الوالدين، وهي الأمور التي سوف تزجُّ بصاحبها الإيغوري المسلم في غياهب السجون الصينية إلى أمدٍ بعيد. فهذه ليست قوانين عالمٍ خياليّ في فيلمٍ سينمائيّ بل واقع 10 ملايين مسلم في الصين، نحو مليون منهم تعتقلهم السلطات الصينية لأجلٍ غير مسمَّى دون توجيه تهمٍ إليهم.
في أقصى الغرب الصيني وفي قلب إقليم شينجيانغ الذي يعيش فيه نحو 10 ملايين مسلم من أقلية الإيغور، ينكشف الوجه الذي يقف وراء اضطهاد المسلمين، إنه "تشين تشوانغو" مهندس معسكرات الاعتقال في الصين ومسؤول بارز في الحزب الشيوعي، وقد أُسندت إليه مهمة إدارة إقليم شينجيانغ عام 2016، فأرسل كوادر الحزب الشيوعي إلى قرى الإيغور ونشر نقاط التفتيش على نقاط واسع وأغلق المساجد، كما جمع عينات من الحمض النووي وبصمة قزحية العين للسكان الإيغور ووضع كاميرات مراقبة بالفيديو في أماكن وجودهم وحلل محتويات أجهزتهم الرقمية.
ولم يكتفِ بذلك كله فقد أقام معسكرات "إعادة التثقيف" التي يقبع فيها الآن نحو مليون مسلم من أقلية الإيغور، والتي تصفها الحكومة الصينية بالمستشفيات وتعتبر المعتقلين فيها مرضى يجب تطهير أدمغتهم من الفيروس الديني وإعادة توطينهم وتثقيفهم سياسيًا ودينيًا، حيث يُجبر المعتقلون على نبذ الإسلام وانتقاد معتقداتهم والأهم من ذلك ترديد شعارات الحزب الشيوعي والتي على رأسها شعار "من دون الحزب الشيوعي.. لن يكون هناك شيء اسمه الصين"، كما يُجبرون على مشاهدة أفلام تُمَجد الرئيس والحزب الشيوعي، بالإضافة إلى عدم وجود شيء اسمه الدين حيث لا وجود للإله.
كما يخضع المعتقلون للحبس الانفرادي لمدد طويلة ويتعرضون لأنماطٍ قاسيةٍ من التعذيب والمعاملة السيئة، والأدهى أن الجزء الأسوأ من القصة لم يأتِ بعد، فهناك تهديدات علنيّة بالإبادة الجماعيّة صرحت بها السلطة الصينية في صحيفة "غلوبال تايمز" الحكومية، حيث قالت السلطات بالنص: "يمكننا اللجوء إلى كل الإجراءات التي تحقق استقرار الصين، إلى الحد الذي يبدو فيه القتل الجماعي والإبادة أمرًا غيرُ مُستبعَد".
وتنص الإجراءات الصينية التي تحولت في مطلع أبريل عام 2017 إلى قوانين على أن الموظفين في الأماكن العامة، ومن بينها المحطات والمطارات، سيكون لزامًا عليهم منع النساء اللائي يغطين أجسامهن كاملة، بما في ذلك وجوههن، من الدخول، وإبلاغ الشرطة عنهن، وفي سبتمبر الماضي أفادت تقارير بأن السلطات الصينية أمرت أقلية الإيغور بتسليم جميع المصاحف وسجاجيد الصلاة وغيرها من المتعلقات الدينية، وإلا سيواجهون "عقوبة"، وذلك بحسب ما نقلته صحيفة الإندبندنت البريطانية عن مصادر إيغورية بالمنفى.
جاء ذلك ضمن قيود جديدة في إقليم شينجيانغ في إطار ما وصفته بكين بحملة ضد التطرف، وشملت الإجراءات منع إطلاق اللحى وارتداء النقاب في الأماكن العامة وإخضاع الأطفال للفكر الشيوعي الماركسي بإلغاء مدارسهم الإسلامية الخاصة، وإجبارهم على الالتحاق بالمدارس الحكومية التي تلزمهم بالإفطار في رمضان وتناول لحوم الخنزير، والأهم من ذلك كله معاقبة من يرفض مشاهدة التلفزيون الرسمي للدولة، كما تحارب السلطات الصينية علامات "حلال" على اللحوم ومنتجات الألبان، فقد أغلقت أكثر من 700 متجر لبيع منتجات "حلال" مطلع العام الماضي، ولمَّا كانت الصلاة ممنوعة كليًا على الإيغور مثلهم في ذلك كالأتراك في عهد أتاتورك، فقد وجدوا طرقًا لا تلاحظها السلطات، مثل الصلاة سرًا أثناء الجلوس على كرسي، أو الصلاة تحت إحدى الأشجار التي تصطف على جانب الطريق.

يخضع الصحافيون على وجه التحديد لتدقيق مكثف، وكان أيّ شخص إيغوري تمكنوا من إجراء مقابلة معه في حالة خوف بالغ من بطش الدولة لدرجة تمنعه من البوح بالحقيقة، وتعد المخاطر المحدقة وحالات الانتقام كبيرة للغاية مع صحافيي الإيغور في الخارج، ففي فبراير قبل الماضي عَلِم أربعة من الإيغور الذين يعملون في إذاعة آسيا الحرة، التي تبث من الولايات المتحدة الأميركية، أن بعض أقاربهم من الدرجة الأولى في شينجيانغ قد أُعتقلوا، وكان ذلك حسب ما جاء في صحيفة الواشنطن بوست الأميركية "محاولة واضحة لتخويفهم أو معاقبتهم على تغطيتهم الصحفية".
أصبح الرئيس الصيني "شي جين بينغ" يُروِّج صورته كرمز للأمة الصينية وحامي حماها وفق مجلة فورين بوليسي الأميركية؛ ساعيًا لإعادة إحياء نموذج عبادة الفرد الذي مات مع موت "ماو تسي تونج" مؤسس الجمهورية الشعبية، حيث يسعى إلى أن يسجد له الجميع بما في ذلك مسلمي الإيغور، وقد كانت القاعدة وفق رؤيته أن تكون مطاعم الإيغور هي الوحيدة في الشارع التي تُغطى بالأعلام الصينية، ويلزم أن يكون الديكور الداخلي لها يحتوي على أعلام صغيرة إضافة إلى صور الرئيس الصيني أو أطباق عليها صورته، ويُفرض عليها أن تحتوي على كتب باللغة الإيغورية تتحدث عن الرئيس الصيني وعن الحزب الشيوعي، فضلًا عن إلزامية وضعها في واجهة المطعم.
ما قمت بسرده في هذا المقام ما هو إلا غيض من فيض يزداد يومًا بعد يوم، ويسطع بريق الأمل شيئًا يسيرًا من وقفاتٍ في عدد من العواصم الأوروبية والعربية من قبل الجاليات التركية وغيرها، ممن لم يتسنى لهم نسيان إخوانهم من مسلمي الإيغور، بالإضافة إلى الوقفات التي ينظمها أبناء الشعب التركي في ولايتي أنقرة وإسطنبول من وقتٍ لآخر أمام السفارة الصينية للضغط على السلطات التي تضيق الخناق على مسلمي الإيغور مع مرور الوقت، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن أين نحن كأمةٍ مسلمةٍ عربيةٍ من مسلمي الإيغور الذين يُقتلون بدمٍ بارد في معسكرات الموت البطئ على يد السلطات الصينية الشيوعية، لا أرى أقل من نشر قضيتهم والدعاء لهم والمساهمة في وقفات احتجاجية تمثل وسيلة ضغط على السلطات الجائرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- بي بي سي.
2- الأمم المتحدة.
3- موقع ميديابارت الفرنسي.
4- مجلة ذا أتلانتيك.
5- بلومبرغ.
6- العربي الجديد.
7- عربي بوست.
8- ميدان.