شعار قسم مدونات

كيف استطاع السلفيون البقاء في صدارة نشر العلوم الشرعية؟

blogs - salafi
مبادرات القراءة الجماعية

نوشك على الانتهاء من قراءة كتاب (جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم) لابن رجب الحنبلي؛ يا إلهي! كان الكتاب بنسخته الورقية أمامي لسنوات، وكانت المشاغل والمسئوليات أقل، وكانت الذاكرة متوهجة لا يفوتها شيء مما تخزنه بسرعة، ومع ذلك لم تكن ثمة مبادرة في المسجد لقراءته، ولم تعلو الهمة كي أكون صاحب المبادرة.

 

وقدّر الله تعالى أن أقرأه بصيغة (بي دي أف) حيث لا أملك النسخة الورقية، مع مئات آخرين لا أعرفهم بمبادرة من قائمين على نشر العلوم الشرعية في الكويت، وهم يعلنون عن عناوين الكتب وطريقة قراءتها ضمن جدول زمني، ويستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة مثل فيسبوك وتويتر وتيلجرام، ومع أن هذه القراءة الجماعية التي سجلت اسمي الصريح والتحقت بها (وهم يعلنون أسماء الملتحقين ضمن جدول مرقم) قد شغلتني عن قراءات أخرى، وعن إتمام بعض مشروعات الكتابة، ناهيك عن إلغاء أو تقليص مشاركات اجتماعية عدة، ولكن لها فوائد جمّة ولله الحمد.

 

ما زال السلفيون في صدارة نشر العلم الشرعي، والعناية به، وجهودهم واضحة، عبر الفضائيات والإنترنت، وما يتاح لهم من مساجد أو جامعات يقدمون فيها العلوم الشرعية

قبل ذلك كنت ألتحق ببرامج مشابهة عبر (واتساب) يشرف عليها علماء من السعودية، وتقوم فكرتها على قراءة عدد من الصفحات يوميا من كتاب ما (10-20ص) قد يكون كتاب تفسير أو فقه أو حديث أو تعليقات أو غير ذلك؛ حيث قرأنا تفسير (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) للشيخ عبد الرحمن السعدي-رحمه الله- أو كتاب (مسائل بن باز) لعبد الله الروقي، وأتحدث عن بعض ما قرأت لا عن كتب لم ألتحق ببرامج قراءتها لكثرة المشاغل. وحين أردت-كوني من الفرع العلمي مدرسة وجامعة- أخذ دورة في الفقه، وجدت بغيتي على منصة تعليمية أشرف عليها أ.د الشيخ/عامر بهجت المحاضر في كليات العلوم الشرعية في المدينة المنورة وفي جدة، وله باع طويل في دروس البناء الفقهي عبر الفضاء الإلكتروني.

 

وإذا أردت طبعة جيدة من كتاب في العلوم الشرعية، فالأفضل ما طبعه السلفيون، وفي الإنترنت، ستجد مواقع كثيرة لتحميل كتب العلوم الشرعية في مختلف الحقول، وتجد المنتديات الحوارية الزاخرة بالمسائل والبحث… حوالي 95% منها ترعاه جهات سلفية.

ما زال السلفيون في صدارة نشر العلم الشرعي، والعناية به، وجهودهم واضحة، عبر الفضائيات والإنترنت، وما يتاح لهم من مساجد أو جامعات يقدمون فيها العلوم الشرعية، وإن كانت بطبيعة الحال وفق منهجهم الذي يميل إلى الفقه الحنبلي وإلى اختيارات وفتاوى ابن تيمية ويرجحون ما حكم به الألباني على الأحاديث النبوية الشريفة، تصحيحا أو تضعيفا أو غيره.

 

التمذهب ما زال فقيرا

كنت مقلدا للمذهب الحنفي منذ شبابي الأول، مع أنه ليس الغالب على بلادي فلسطين، ولهذا قصة لا مجال لذكرها الآن، ولكن كنت غير متقيد بكل ما في مذهبي بدعوى قوة الدليل، وربما النزوع إلى الاستسهال، ولكن مؤخرا حسمت أمري وقررت الالتزام الصارم بالمذهب الحنفي، وما أجهله سألت من هم أعلم مني في ما استقر عليه المذهب من أمور العبادات وما يجوز وما لا يجوز في المسائل المختلفة، ولله الحمد يسر الله لي ذلك، ولدينا تفكير بتوسعة دائرة التفقه على المذهب الحنفي، بجهود فردية.

 

وقد علمت أن هناك زيادة في الاهتمام والتدريس للفقه الحنفي في الأردن وتركيا، ويقوم على ذلك علماء كبار جزاهم الله خيرا، وثمة ازدهار ملحوظ في هذا المجال. ومع ذلك فإن هذا نقطة في بحر السلفية؛ فحيثما توجهت تجد انتشار كتبهم وصفحاتهم الإلكترونية، وقدرتهم السريعة على استخدام الوسائل الحديثة لنشر دعوتهم وفتاويهم واختياراتهم الفقهية، بحيث لا يمكن لجماعة متمذهبة مجاراتهم، حتى اللحظة.

 

السلفية كمفهوم هنا
السلفية تتفوق على الحركيين في شتى الميادين العلمية، وهي قد وفرت لأتباعها، ولمن استشكل عليه أمر من عامة المسلمين قاعدة بيانات ضخمة، ومواد علمية مقروءة ومرئية ومسموعة حجمها هائل وهي في ازدياد مطرد

وقبل اللغط الذي قد يثار حول مفهوم السلفية، على الأقل في هذه المقالة، فإننا لسنا بحاجة إلى كثير من الكلام، أو إلى شرح من مئتي صفحة، مثلما فعل عزمي بشارة الذي نشر كتابا بعنوان(في الإجابة عن سؤال: ما السلفية) فقط يكفينا القول:هي تلك المدرسة التي يغلب عليها الالتزام بفتاوى ابن تيمية، والبعد عن الالتزام بمذهب محدد، وإن كانت تميل إلى ترجيح رأي الحنابلة، وترى تعريف البدع وفق مدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورأيها في الفرق والملل والنحل معروف ولا يحتاج إلى إعادة هنا، وتشددها ليس فقط تجاه من ليسوا من  أهل السنة، بل لتيار كبير واسع وله مدرسة كبيرة عند السنة، أي الأشاعرة وعموم الصوفية.

 

تفوق السلفية

بدأت حديثي بما يجري من مبادرات لقراءة كتب العلم الشرعي، ودورات الفقه؛ فأين مساهمة الحركات الإسلامية الفاعلة في هذه الأبواب؟ إذا كانت موجودة وأنا لم ألحظها فهذا يؤكد ما أقول بأن السلفية تبزّ غيرها، وإذا كانت غير موجودة-وهذا ما أرجحه- فالتأكيد مضاعف.

 

طبعا لا يوجد مساهمة، لأن (الشباب) انهمكوا في قراءة كتب ما يسمى بالتنمية البشرية، وما يتبعها من دورات تنفق عليها أموال طائلة، وكل ما ينتج عنها هو (مدربون) جدد لهذا (الفن) والذي لا أدري من خدع هذا الجيل من الإسلاميين وسوّقه لهم على أنه علم دونه كل العلوم، وجعلهم يزهدون بل يتكبرون-وإن لم يقولوها صراحة- على العلوم الشرعية.

 

إن السلفية تتفوق على الحركيين في شتى الميادين العلمية، وهي قد وفرت لأتباعها، ولمن استشكل عليه أمر من عامة المسلمين قاعدة بيانات ضخمة، ومواد علمية مقروءة ومرئية ومسموعة حجمها هائل وهي في ازدياد مطرد، وهي ليست جامدة، مثلما يتصور بعض الحركيين الذين تأثروا بها في زمن سابق، فانقادوا وراءها بطريقة عمياء غبية، ثم صاروا يعادونها منبهرين بنتاج آخر، ومتحصنين لاجئين من تشددها إلى فتاوى الشيخ/يوسف القرضاوي، والذي-للمفارقة- مع حدة السلفيين تجاهه إلا أنه يوافق السلفية بترك الالتزام بمذهب معين بدعوى قوة الدليل.

 

وقد بالغ الحركيون من منطلق فقر وشح اهتمامهم بالعلوم الشرعية في الربع قرن الماضي بمكانة القرضاوي العلمية، لدرجة أن أحدهم قال لي أنه بوزن الأئمة الأربعة في عصرنا! بل زاد آخر: إنه عالم لا يشق له غبار، والدليل أنه يخالف ابن عباس وابن عمر!

طبعا المقالة ليس هذا موضوعها، ولكن لو كان لدى الحركيين قاعدة من الفقهاء والعلماء المتأخرين، لما تقوقعوا وراء عالم واحد، لا أنكر فضله ولا علمه، ولكن أستنكر مبالغاتهم، وتقديم ما يفتي به على كل رأي مخالف. وقد يقول قائل: أليس السلفيون مثل أبناء الحركات الإسلامية في هذا الشأن حيث أنهم يختارون اختيارات وترجيحات ابن تيمية، ومن علماء العصر يتقيدون بمشايخ السلفية المعاصرين الراحلين كابن باز والعثيمين والألباني؟!

 

سؤال مهم، ونظرا لأن المسألة تحتاج توسعا وشرحا والإتيان بأمثلة وشواهد، فسأناقش الأمر في المقال القادم بمشيئة الله، ولكن أختم بالتأكيد من جديد على صدارة وتفوق السلفيين بكافة مدارسهم في نشر العلوم الشرعية والبراعة في تقديمها إلى الناس باستخدام الوسائل الحديثة، ومبادراتهم في هذا الشأن مميزة…أقول هذا وأنا المقلّد المعتز بتواضع لله إلى مدرسة السادة الحنفية التي لها من الخلاف ما نعلم مع السلفيين، ولكن هذا شيء، والإقرار بجهد القوم وتفوقهم في نشر علوم الشرع شيء آخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.