شعار قسم مدونات

وداع المدينة المؤلم.. قصة قصيرة من وحى التاريخ (2)

blogs أبو حنيفة

يشرد سليمان ببصره نحو السماء والدموع على وجهه، يتذكر ذلك النهار الرمادى الذى ودَّع فيه ابنه أيوب، لقد كان شاباً في مقتبل العمر، مات فجأة إثر حُمّى شديدة أعلَّت جسده فترة حتى فارق الحياة، يتذكر سليمان هذه الأيام التي كان فيها بعيداً عن معترك السياسة، وكيف كان يناقش ابن عمه عمر في قضايا الفقه والحديث والسياسة وحقوق الدولة على الفرد وحق الفرد على الدولة.

فى خِضَمّ عذابه اللحظى لنفسه والخوف من ماضيه وحاضره بدا على وجه سليمان سؤال يريد أن يوجهه إلى سلمة، لكنّ شيئاً ما أعاقه عن توجيه هذا السؤال، تلك الجموع الغفيرة التي لا يريد سليمان أن تراه منكسراً ضعيفاً أمام هذا الرجل ذي العباءة المترهلة من كثرة ارتدائها، لكنه فيما يسأله إن لم يكن حديثه معه عن معاناته وآلامه! كيف سيراه هؤلاء الناس بعيونهم الثاقبة والتى يبدو فيها الذكاء إن سألته تلك الأسئلة التي لا طائل من ورائها غير تمضية الوقت، لقد أصبح الحديث عن الموعظة والنصيحة أمراً لا يجيد الناس سماعه، وبصوتٍ منخفضٍ متقطعٍ سأل سليمان سلمة: كيف رأيت ملكى وملك آبائي؟

يحاول سليمان بن عبد الملك أن يلملم أشتات ذاكرته المبعثرة وأنفاسه المضطربة ليعاود الحوار مع سلمة بن دينار قائلاً له: فخور أن يتكلم أمثالك بما في ضميرهم يا سلمة حتى ولو على حساب عذاب نفوسنا

وقف سلمة مُعِيراً انتباهه إلى سليمان، لم يفاجئه بسؤاله بل توقعه من أول لحظةٍ رآه داخلاً المسجد كتائهٍ ضل الطريق يبحث عمن يروى ظمأه، لقد سأل آباؤك من قبل هذا السؤال لعامة الناس وعلمائهم فعرفوا مكانتهم، وبالأحرى تعرفها أنت يا أمير المؤمنين. لكننى أود سماعها منك يا سلمة، نود سماعها دائماً ممن تعزف قلوبهم عن الدنيا، أنهم أصدق مقالة.

إنه لم يكن من حقك ولا من حق آبائك أن تأخذوا ما ليس لكم فيه حق، لقد أخذتموه عنوة بالسيف من غير مشورةٍ ولا اجتماعٍ من الناس، وما أن أخذتموه حتى تركتم الناس جياعاً، سفكتم دماءهم، ونقلتم أموالهم إلى عاصمة الخلافة تتمتعون بها، قسَّمتم الناس إلى طبقات فمن يدنو منكم يكون في رغدٍ من العيش، ومن هو بعيد عنكم يذوق الهوان، وها هم علماؤكم يصدعون في الليل والنهار بقِيَم الطاعة الواجبة لأمير المؤمنين وحرمة الخروج عليكم، لو سألت الناس يا أمير المؤمنين عن ملك آبائك…

صاح ابن شهاب الزهري في وجه سلمة بأن يقطع حديثه المليء بالأباطيل، وتكلم آخر: بئس ما قلت ألا تعلم أنك تتحدث مع أمير المؤمنين؛ ما هذه الجرأة والفظاظة منك تجاه أمير المؤمنين؟ ألم تعلم أنه في مقام محمد؟ لم يتمالك سليمان نفسه ولم يشعر بأركان جسده الذى بدا عليه الخمول، هَمَّ بالجلوس مرتكناً على حائط المسجد وأشعة الشمس المخترقة لسقف المسجد ساقطة عليه، فيحاول أحد جلسائه أن يأخذ بأطراف ثوبه حتى لا يتسخ بالتراب المنتشر في كل مكانٍ بالمسجد. بدأ السكون يأخذ مجراه مرة أخرى بعد هذه الجلبة وهذا الصياح ليعم الهدوء ويلتقط الناس أنفاسهم التي أمسكوا بها طوال هذا اللقاء المحتدم بين سليمان وسلمة.

زحف سلمة بضع خطوات متجهاً إلى سليمان وتحرك معه ابن شهاب الزهرى فتكلم سلمة: لا أدَّعى العلم ولست جديراً بحمل أمانته يا أمير المؤمنين، ولكن الله يا أمير المؤمنين قد أخذ على العلماء -مطلق العلماء- أن لا يكتموا شيئاً علموه وأن يبينوه للناس، وتلك ممارسات عمالك وجنودك واضحة للأعمى والبصير. إن أمماً هلكت وستهلك أمم لأن علماءها ارتضت الهوان وشاركت ملوكها أموال الناس وعاشت في ظلهم.

إياى تعني؟ أو بى تعرض؟ إنك لم ترعَى حتى قيم الجوار يا سلمة، إنه جارى يا أمير المؤمنين في المدينة لمدة ثلاثين سنة ما كلمته قط. هكذا قطع ابن شهاب الزهرى حديث سلمة بكل سخطٍ وسليمان ينظر اليه بإحدى عينيه غير عابئ بأى كلمةٍ من كلمات ابن شهاب. يحاول سليمان بن عبد الملك أن يلملم أشتات ذاكرته المبعثرة وأنفاسه المضطربة ليعاود الحوار مع سلمة بن دينار قائلاً له: فخور أن يتكلم أمثالك بما في ضميرهم يا سلمة حتى ولو على حساب عذاب نفوسنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.