شعار قسم مدونات

أوقاتنا نادرة والعلوم ثمينة.. فلنبادل!

BLOGS مكتبة

عندما تتجاوزُ رغباتُ الإنسانِ الموارد المتاحةَ لتحقيقها، فهوَ أمامَ ما نسمّيهِ في علم الاقتصاد النُّدرة، أمّا كيفيّة استعمال الموارد المتاحة في هذه الحال نسمّيها مشكلةً اقتصاديّة. ولكلّ إنسانٍ مشكلةٌ اقتصاديّة تبدأ مُنذ وُلِدَ وتنتهي بموْتِهِ، ألا وهي نُدرةُ الوقتِ وكيْفيّةِ استعمالِهِ في تحقيق أهدافِهِ على أحسن وجهٍ وحال! الإنسانُ بشكلٍ عامٍ لديهِ رغباتٌ لا محدودة، لا يكادُ عمرُه يتّسع لها، ولعلّ منّا من يواجه ذلك كلّ يوم، بل كلّ ساعةٍ، في أنّ ما يرجوه لنفسهِ في هذه الساعةِ لا تتسعُ لهُ ساعة، فيكون جلّ يومهِ في مواجهةٍ مباشرة مع مشكلاتِه الاقتصاديّة.

وبعدَ إدراكِ أنّ ساعاتنا لا تكفي لتحقيق كلّ ما نريد، نضطرّ إلى ترتيب سُلّم أولويّاتنا فيما يخصّ تلك الرغبات حسب أفضليّتها، على سبيل المثال من يجعلُ القراءةَ أولى رغباته، سيحتاجُ إلى مورديْنِ، طاقةٌ يستمدّها من الطعام والشراب، ومال يشتري بهِ كتاباً وطعاماً وشراباً، لذلكَ وإن كانت الأَولى في الرغبات فستكون الثالثة في أولويّات تقسيم الأوقات. إذ أنّهُ سيقسّم وقتهُ بحيث يعمل فيجني مالاً، يشتري به كتاباً يقرأه وطعاماً يمدّه بالطاقةِ لكي يكون قادراً على الاستفادةِ مما يقرأ.

هذه التفضيلاتِ والأولويّاتِ نسبيّةٌ بين النّاس، فالرغبات وترتيبها عند انسانٍ وإنسانٍ عادة لا تكون متشابهة، على سبيل المثال قد تتأثر بالمكان والزمان، إذا عرضنا على رجلٍ في مدينة القُدس أن يختار بين قطعةٍ من ذهبٍ أو كأسٍ من ماء، سيختار بلا تردد قطعة الذهب لكنّ قَطْعاً هذا لن يكون خيار رجلٍ تائهٍ في صحراء النقب. بالرغم من ذلك ثمّةَ أولويّةٌ يرى العقلاء في كلّ زمان ومكان أنّها يجب بل لا بدّ أن تكون عندَ كل بالغٍ عاقلٍ تتوفّر من حولِهِ احتياجاتُهُ الجسمانيّة في هذا الكوكب، بها يسمو بنفسهِ ويرتقي بمجتمعِهِ، بها يُصلِحُ حياتَهُ وبيئتَهُ، فهيَ جزءٌ من كينونتهِ، هي من أسبابِ رفعَتِهِ، هي أولويّة طلبِ العلْمِ والمعرفة!

الفرد الواحد منّا قد يُحدِثُ تغييراً ولو بسيطاً في كونه مثقّفاً قارئاً مُطلعاً على أحوال الدنيا، الفرد الواحد منّا وإن كان بلغة الإحصاء صغيراً، إلا أنّه قد يكون بلغة التغيير عظيماً

كيفَ لا، والإنسانُ منذ نشأتِهِ فُضِّلَ عن غيْرِهِ بالعلْم، فإنّا كما أننا فُضّلنا عن بقيّة المخلوقات في هذا الكوكب بعقولنا ووعيِنا وقدرتنا الفائقة على التعلّم، فإنّا بالعلْمِ أيضا فُضّلْنا عن بعض أو ربما كلّ أهلِ السّماء من الملائكة، حدّثنا القرآن الكريم الذي كان أوّل ما نزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم منهُ أمر الله "اقْرَأْ"، كما أنه سبحانه وتعالى القائل: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(32)".

لعلّه كان أوّل حدثٍ بين عبدٍ من الإنس وربِّه – والله أعلم ُ- أنّهُ علّمهُ، وفُضّلَ على الملائكة المذكورين أنّه عُلِّمَ ما لا يعلمون. ونحن ما بين كوننا مخلوقات بدأتْ سلالتهم ب "علّم" وبين كوننا معتنقينَ لدينٍ بدأ ب "اقْرَأْ" كيفَ لنا أن ندعَ القراءة والتعلّم خارج أولويّاتنا الأولى في هذه الحياة! قال بعضهم: "من أمضى يوماً من عمره في غير حقٍ قضاه، أو فرض أداه، أو مجدٍ أصله، أو حمد حصله، أو خيرٍ أسسه، أو علمٍ اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه".ومن أقوال الفاروق رضي الله عنه:"إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً لا في عمل دنياً ولا في عمل آخره".

ومن خيرِ الأعمال التي تجتمع فيها فوائد الدنيا والآخرة هي التعلّم، والتعلّم هنا لا أعني به بالضرورة الجامعات والكليّات، إنّما هو كلّ معرفةٍ مفيدةٍ نستزيدها، كلّ خبرةٍ نجتهد في اكتسابها في كلّ مجالات حياتِنا، فلا ينهض أحدنا من يومه ثمّ يعودُ فينام آخر اليوم ولمْ تزدد معارفهُ شيئا! كلّ يومٍ لا بدّ أن نبحث عن الجديد في مهنتنا، وحبّذا لو نُخصص وقتاً من أيامنا في التثقّف والقراءة في غيرِ تخصصنا.

مهما كنّا خبراء، ومهما كنّا مجتهدين، فإنّ العلوم في هذهِ الدنيا كثيرة وكبيرة، وأشكّ أنّ أحداً يستطيع احتواء علمٍ كاملٍ حتّى وإن كان في موضوع تخصصه أو مهنته. أشكّ أننا نستطيع أن نبلغَ درجةً نختم فيها عِلماً ما، لذلكَ فنحن كل يومٍ نستطيع تعلّم الجديد إمّا في العلوم والخبرات التي تخصصنا فيها، وإمّا في تخصصات أخرى لا حصر لها، فكأنّ العلمَ سُلّمٌ، أصلهُ في الأرضِ ممتدٌّ إلى الآفاق، كلّما صعد الإنسان درجةً وجدَ آخره قد امتدّ بأضعافِها، صعودهُ شقاءٌ في النعيم، وتركهُ نعيم في الشقاء!

ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهِ

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ

 

أوقاتُنا نادرةٌ فلنقايضها بما هو ثمين كالعلم، فلنتعرّف قليلاً على الفيزياء وحركات الأجسام من حولنا، على الكيمياء وتفاعلات المادة، على الاقتصاد والمشاكل التي تحيط بنا. فلنتثقف في السياسة لنفهم ما يدور حولنا، باختصار لا بدّ أن نتفتح على كلّ شيء قدر المستطاع من غير تفريط بعلوم وتخصصات نلمّ بها ونتفنّن فيها، فيكون مثلنا كمثل من دخل الى بستانٍ كبير فيه ما فيه من الأزهار والأشجار، فجعلَ يتنزّه بينها فيشتمّها ويتذوقَ من ثمرها، في حين أنه اختار له شجرةً بنى عليها بيتا يأويه، يُسقيها وتُطعمه، يحافظ عليها وتظلّه.

ولا يكاد يخفى اليوم على أحد، أنّنا في مجال العلوم والثقافةِ متأخَرين عن الأقوام، وكانَ أولى بنا أن نكون في المراتب الأولى، فاللهُ جلّ وعلى يريدُنا متفكّرين لعظائم خلقِه، "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ"، والنبيّ صلى الله عليه وسلّم، يريدنا أن نكون شامةً بين النّاس، بل وجُعِلَ طلبُ العلمِ سبيلاً من سبل الجنّة، في الحديث "منْ سَلَكَ طَريقًا يَبْتَغِي فِيهِ علْمًا سهَّل اللَّه لَه طَريقًا إِلَى الجنةِ، وَإنَّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطالب الْعِلْمِ رِضًا بِما يَصْنَعُ". وكما نرى فإنّ العلم في الحديث جاء نكرة غير معرّف، أيّ أنّه لم يُحدَّد بالعلم الشرعيّ وحسب، بل نحسبه قصد كل علم مندوب مفيد.

العلمُ والدّينُ أيّها السادةُ متكامليْن، فكما نتعبّد الله بالصلاة والصيام تعظيما، نتعبّده بالتفكر بخلقِه، وبتعلّم ما يُفيدنا ويُفيد الناس، نتعبّدهُ في دراسةِ كيفَ خلق ما خلق، وعندما نجمعُ الشقين، أي العلوم الدينيّة والعلوم الطبيعيّة، نُعزز من رفعةِ أمّتنا كما أريدَ لها، خير أمّةٍ أخرجت للناس، أمة وسط شاهدة على الأمم ونموذجا لهم. وأخيراً، إننا اليوم في مرحلةٍ مهمّةٍ جداً من مراحلِ تداول الأيّام بين النّاس، نحن – غالباً – في مرحلةِ تحوّل وتبدّل في منازل الأمم، كما أننا لدينا حضارات عريقة، كثير منّا عازمٌ على استئنافها، وإعادةِ تشييدها، حتى تعود كما كانت في القمم، وهذا ليس خارجاً عن مقدورنا، فلا تنقصنا عقول ولا أبدان، إنّما تنقصنا الإرادة.

الفرد الواحد منّا قد يُحدِثُ تغييراً ولو بسيطاً في كونه مثقّفاً قارئاً مُطلعاً على أحوال الدنيا، الفرد الواحد منّا وإن كان بلغة الإحصاء صغيراً، إلا أنّه قد يكون بلغة التغيير عظيماً. المهمّ أن نعي ندرة أوقاتنا، ونبدأ مقايضة ما نستطيع منها بالعلمِ، وننقل للناس من حولنا ما تعلّمنا، وننقل لهم أهمّيّة جعل طلب العلم والقراءة في أولويّاتهم في الحياة، كي نكون حجر أساس في بناءٍ عظيم، ونبني بأيدينا ونحيي برقيّنا حضارةً متقدّمة.

 

العلمُ يبني بيوتا لا عماد لها

والجهل يهدم بيت العزّ والكرمِ

 

عن الإمام الشافعيّ أنّهُ قال:

إذا هبّت رياحُكَ فاغتنمها

فعقبى كلّ خافقةٍ سكون

 

وكون الإنسان منّا يمتلك أجهزةً ذكيّةً تجلب له العلمَ الذي يريد من المكان الذي يريد بلحظات، وكون الإنسان يجد الوقت الذي يستطيعُ انفاقَهُ في طلب العلم أو التقدّم في مجالهِ أو أيّ فائدةٍ أخرى، فليعلم أنّ رياحهُ في هبوب فليغتنمْ خيراتها، وما ماضي الشباب بمستردٍّ، ولا يوم يمرّ بمُستعادِ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.