من يتابع تغطية وسائل الإعلام العربية للاحتجاجات في السودان يندهشُ من حجم الموضوعية والحياد "النسبي" في هذه القنوات لِما يحدث من تظاهرات في المدن السودانية منذ 19 ديسمبر الماضي. تلك التظاهرات تُطالب بالإصلاح والتغيير وإسقاط النظام بعد أن تفاقمت الأوضاع المعيشية والاقتصادية في البلد الذي يحكمه الرئيس عمر البشير منذ عام 1989م.
وقلما نجد اليوم قناة عربية إخبارية لا تذكر في نشراتها ما يجري في السودان من حراك واحتجاجات، والملفت للنظر فيما يتعلق بتغطية وسائل الإعلام العربية للأحداث في السودان هو أن هذه القنوات تذكر معظمَ الشعارات التي يردّدها المتظاهرون في الشوارع، وهي ظاهرة صحية تدعو إلى التفاعل والفرح لولا السجل السيء الذي تملكه هذه القنوات في تغطياتها للربيع العربي! ما يدعو للتساؤل عن الأسباب والدواعي التي تقف خلف هذه السياسة الإعلامية الجديدة.
قد تكون احتجاجات السودان بداية لعهد جديد من الموضوعية النسبية في الإعلام العربي |
كما يُلفت الانتباه في هذه التغطية الإعلامية لما يشهده السودان هو وجود الأصوات المعارضة والمؤيدة للأحداث. فعلى سبيل المثال عندما نُتابع تغطيةً لقناة العربية بِشِقيها الحدث والإخبارية عن السودان نجد صوت المعارضة السودانية التي تُطالب بتنحي البشير وإسقاط نظامه. كما نجد أصوات المؤيدين لحُكمه ونظامه، وهذه كما أشرنا ظاهرة صحية افتقدتها القنوات منذ اندلاع الربيع العربي بعد أن قررت الاصطفاف بجانب الحكومات والأنظمة ومحاولتها تشويه ثورات الشعوب ومطالبها في التغيير والإصلاح. لكن وإرجاعاً على ما سبق، نعتقد أن هذه التغطية الموضوعية للقنوات العربية لاسيما القنوات التي عُرف عنها بُعدها عن الموضوعية كالعربية والحدث وسكاي نيوز، جاءت نظراً للأسباب التالية:
أولاً: اعتبارها من دروس الماضي والتغطية المُنحازة والخاطئة للتظاهرات والثورات التي شهدتها باقي الدول العربية، وما كلّفها هذا المسار من فُقدان للمصداقية وتراجع نِسب الشعبية في الشارع العربي بعد أن عَمدت على تشويه الثورات والانحياز التام للأنظمة والحكومات التي واجهت هذه الاحتجاجات الشعبية السلمية.
ثانياً: كثرة التكلفة لمواجهة الحِراك الشعبي الذي يشهده العالم العربي، فمَن موّل هذه القنوات ووجّه تغطياتها وسياساتها الإعلامية قد بذلَ كثيراً من الأموال، وتحمّل كثيراً من الأعباء بهدف إفشال الثورات والحفاظ على المنظومة العربية السابقة. إلا أنه وبعد كل ذلك يجد أن الشعوب العربية ورغم هدوئها النسبي إلا أنها لا تزال في مرحلة الحِراك والفوران "الصامت" إن جاز التعبير، وأن كل لحظة قد تنفجر الأوضاع وتقوم ثورات أكبر من الثورات السابقة تُطيح بالمنظومة العربية التقليدية بشكل كامل.
على سبيل المثال قد يكون حُكّام الإمارات والسعودية (قادة التيار المعادي للثورات الشعبية) أدركوا أن وقوفهم ضد ثورات الشعوب يُكلفهم منذ ثمان سنوات كثيراً من الخسائر، ولا يجلب عليهم إلا التردي في السمعة والتراجع في الشعبية في الشارعين العربي والإسلامي. وبالتالي فإن الوقوف على الحياد قد يكون أفضل بكثير من الإصرار على الوقوف ضد الشعوب الثائرة والانخراط في صراع لا يتوقف إلا بتكاليف باهظة قد تصل إلى الإسقاط والزوال.
ثالثاً: قد يكون سبب هذه التغطية الموضوعية نسبياً هو موقف هذه الدول التي تملك هذه القنوات الإعلامية من نظام عمر البشير في السودان، فعلى سبيل المثال يَعتبر البعضُ أن دولة الإمارات والسعودية تُعاديان نظام البشير بسبب قربه من الإخوان والسماح لهم بالوجود على أرض السودان. وبالتالي فإن السياسة الإعلامية للقنوات الممثلة لهذا التيار تستمر في نهجها السابق وهو الذي يريده الحُكام الذين يملكون هذه القنوات ويمولونها.
وختاما نعتقد أن تجربة الربيع العربي كانت حاضرة في كل قرار يُتخذ لتحديد موقف القنوات الإعلامية من الاحتجاجات في السودان وكلّ حدث جماهيري في العالم العربي، وبالتالي فإن خيار الموضوعية وإن كانت بشكل نسبي قد يكون هو الخيار الأفضل والأقل كلفة لجميع الأطراف. كما قد تكون احتجاجات السودان بداية لعهد جديد من الموضوعية النسبية في الإعلام العربي، بعد فشل السياسات الإعلامية السابقة التي انتهجتها بعض المؤسسات الإعلامية في طريقتها للتعاطي مع الأحداث والتطورات في العالم العربي، لاسيما وأنها تقف تماماً على استحالة منع وصول المعلومة الصحيحة إلى المتلقي في ظل كثرة القنوات والوسائل الإعلامية بالإضافة إلى خدمة وسائل التواصل الاجتماعي ذات الأثر الكبير في نشر الوعي والمعرفة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.