شعار قسم مدونات

اتفاقية آخن بين فرنسا وألمانيا.. ردة فعل على سياسات ترمب العقيمة؟

BLOGS ميركل

استقرأت الدول الأوروبية الفاعلة مآلات وصول رئيس شعبوي لم يزاول السياسة من قبل إلى البيت الأبيض منذ وقت مبكر، ووجدت نفسها أمام مرحلة جديدة تتطلب من القارة المضطربة إعادة صياغة وحدتها الأوروبية وتحديد أولوياتها الإقليمية وشراكاتها الدولية في المرحلة القادمة، قبل الشروع في تنفيذ الإصلاحات التي أعلنت عنها دول الاتحاد الأوروبي للمضي قدما ً بالوحدة القائمة، ورأت دولا مثل فرنسا وألمانيا في خلافاتها المتصاعدة مع واشنطن حول الكثير من القضايا فرصة لها لتبني سياسات أكثر استقلالا ًعن الرؤية الأمريكية وأقل اعتمادا ًعلى واشنطن في الحفاظ على أمن وسلامة القارة الأوروبية من المخاطر الخارجية. 

ومع بداية وصوله إلى البيت الأبيض، دشن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عهده بإحداث انقلاب في الشراكة التجارية بين واشنطن والاتحاد الأوروبي، وشجع بريطانيا على الخروج من الوحدة الأوروبية ووعد حلفاءه في لندن بإبرام اتفاقية تجارية تفضيلية حال خروجها، ولم تلبث الخلافات الأوروبية الأمريكية العابرة للأطلسي طويلا ًخلف محاولات الأوروبيين استيعاب واقعهم الجديد حتى ظهرت من جديد وبشكل غير مسبوق عقب إعلان ترامب انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ، ثم الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران وتشديد العقوبات الاقتصادية على طهران دون الأخذ بمصالح حلفائهم الأوروبيين الأمنية والاقتصادية والتجارية في الحسبان.
 

كان لرؤية المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الإصلاحية داخل الاتحاد الأوروبي الدور الأكبر في ولادة ما يشبه نواة تحالف أوروبي جديد يجمع كل من ألمانيا وفرنسا في اتفاقية صداقة تتطابق فيها السياسات والمواقف

أمريكا أولا ً، تلك السياسة العقيمة التي اتخذها ترامب نهجا ًجديدا ًلإدارته في ظل نشوة شعبوية عبرت الأطلسي ووصلت إلى واشنطن وأضرت بمصالح الأمن القومي الأمريكي قبل مصالح الحلفاء في حلف شمال الأطلسي وفي الاتحاد الأوروبي، وهو ما ولد الرغبة لدى الأوروبيين في تعويض أي فراغ أمريكي محتمل في حلف شمال الأطلسي وفي حدود أوروبا الشرقية مع روسيا بقوة أوروبية بديلة تعنى بأمن وسلامة دول الاتحاد الأوروبي من التهديدات الخارجية، وهو ما تم طرحه بالفعل خلال اجتماع دول الاتحاد الأوروبي في باريس العام الماضي لإقرار مجموعة من الإصلاحات داخل المنظومة الأوروبية، دون تحديد ملامح تلك القوة وموعد البدأ في عملها والإطار الذي سيجمعها.
 
على الصعيد الدولي، أدركت ألمانيا الساعية للدخول إلى مجلس الأمن الدولي وإحداث توازن في المواقف الدولية أن الوقت قد حان للاستقلال عن السياسات الأمريكية وإحلال قطب أوروبي جديد في المعادلة الدولية، فعالم ما بعد ترامب لا يشبه ما قبله، وملامح الانكفاء الأمريكي على القضايا الداخلية والتخلي عن لعب دور في الأزمات الدولية الرئيسية واضحة، إلا أن قدرة برلين على تحقيق ذلك محدودة ويتطلب القفز نحو العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي يحتاج إلى دعم أوروبي لا وجود له في الوقت الحالي، فالخلافات الأوروبية حول قضايا اللجوء والهجرة وقيادة اليمين الشعبوي المناهض للوحدة الأوروبية بصيغتها الحالية للحكومات والبرلمانات في عدد من دول الاتحاد الأوروبي يقف حجر عثرة في طريق المستشارة الألمانية المثقلة بالملفات الداخيلة والخارجية نحو موقف أوروبي موحد في بروكسيل، كما أثبتت الخلافات الحادة بين ألمانيا وفرنسا من جهة وبين واشنطن من جهة أخرى عقب انسحاب الأخيرة من الاتفاق النووي الإيراني أن هناك حاجة ماسة لمعالجة التدهور الحاصل في العلاقات العابرة للأطلسي بترياق أوروبي، يحافظ  على المصالح الحيوية لألمانيا وحلفائها الأوروبيين، ويحد من آثار التراجع الأمريكي عن الالتزامات الثابتة تجاه الأوروبيين.
 
كان لرؤية المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الإصلاحية داخل الاتحاد الأوروبي الدور الأكبر في ولادة ما يشبه نواة تحالف أوروبي جديد يجمع كل من ألمانيا وفرنسا في اتفاقية صداقة تتطابق فيها السياسات والمواقف، حيث وقع الطرفان اتفاقية جديدة في مدينة آخن غرب ألمانيا سميت بـ "اتفاقية آخن"، تنص على إحداث تطابق في السياسات الأمنية والدفاعية والاقتصادية، وخلق مشاريع مشتركة في النقل والتعليم والطاقة للمناطق الحدودية بين فرنسا وألمانيا في ولاية زارلاند، وذلك لتسهيل عمل وتنقل الفرنسيين القاطنين في القرى الفرنسية المتاخمة للولاية الألمانية، وهو ما يفوق ما وقع عليه الطرفان في اتفاقية الصداقة الفرنسية الألمانية "اتفاقية الإليزيه" عام 1963، والتي أنهت عقودا ًمن الحروب والعداء وتأسست وفق بنودها العلاقات الاستراتيجية بين البلدين.
 
يمكن للمتمعن في نصوص الاتفاقية أن يرصد الجزء الأهم منها والمتعلق بالجانب الأمني والدفاعي، فالسياق الذي أنضج الاتفاقية والمسؤوليات الواقعة على عاتق الفرنسيين والألمان في الوصول بسفينة الاتحاد الأوروبي إلى بر الأمان بعد خروج بريطانيا وظهور بوادر تصدع خطير في نظام الوحدة الأوروبية، تعطي الاتفاقية صبغة استراتيجية يتجاوز تأثيرها حدود البلدين ، فالكثير من الأهداف المرجوة من الاتفاقية يمكن تحقيقها وفق المعطيات الدولية الجديدة، حيث تحتاج ألمانيا إلى معالجة ضعف التسليح في جيشها وتهيأته للحفاظ على الاستقرار والهدوء في الدول الواقعة على حدود أوروبا الشرقية مع روسيا والضلوع في مهمات خارجية لحفظ الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب في مناطق الصراعات بمساعدة الفرنسيين، لتستوفي ألمانيا بذلك الشروط المطلوبة منها لولوج الساحة الدولية كقوة فاعلة وكعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، فيما ينتظر الفرنسيون من الاتفاقية الجديدة أن يقدم الألمان الدعم المطلوب لإنعاش الاقتصاد الفرنسي وإخراجه من أزمته الحالية.
 
وعلى الصعيد الأوروبي، تسعى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى توثيق عرى الشراكة الأوروبية وإطالة أمدها في الفترة المتبقية من ولايتها الأخيرة، حيث تراهن ميركل في مهمتها على خبرتها الاستثنائية ونفوذها القوي داخل الاتحاد الأوروبي وعلى التوافق في الرؤى والأهداف الذي تتقاسمها مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فغياب الإثنين عن المشهد الأوروبي دون تحقيق تلك الإصلاحات سيجعل من مهمة من سيخلفهما صعبة ومعقدة، فالهوة الاقتصادية بين شمال وجنوب القارة آخذة بالاتساع، وتململ الدول المتعثرة اقتصاديا ًمثل اليونان وإسبانيا وإيطاليا من معايير الاتحاد الأوروبي المتعلقة بمعدلات التضخم والنمو الاقتصادي وسقف العجز المسموح به في الميزانيات العامة لدول الاتحاد الأوروبي، جعلت من تكرار سيناريو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أكثر واقعية، فإذا ما حظيت بريطانيا بمميزات تتعلق بتجارتها البينية مع دول الاتحاد الأوروبي وضمان حرية العمل والتنقل لمواطنيها دون أن يكلفها ذلك البقاء في الاتحاد الأوروبي و الالتزام بدفع المليارات المترتبة على تلك العضوية، ستحذو بقية الدول الأوروبية المتثاقلة من الالتزامات المالية تجاه الوحدة الأوروبية حذو بريطانيا، وسيكون الاتحاد الأوروبي أكثر قابلية للتفكك، وهو ما يجعل من اتفاقية آخن بين فرنسا وألمانيا إجراءا ًاحترازيا ًمبكرا ًيمكن الاعتماد عليه في المستقبل المنظور.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.