شعار قسم مدونات

القراءة.. هل الكتاب مصدر حقيقي للسعادة؟

blogs قراءة

عندما أخبرتني أنّها تشعر بشيء من الفراغ والرّوتين والَملَل نصحتُها بالقراءة، ولمّا قالت لي أنّها تعاني خَوَاءً روحياً وانعدام لأيّ شغف يملأ حياتها قلتُ لها عليك بقراءة الكتب، ولماّ صرَّحت لي بأنّها ليْست بخير وأنّها تفقِد ذاتها كلّ يوم وأنّها لا تكتسب شيئاً قد يُنمّي عقلها ويسمو بروحها وأنّها تسْتشعِر هذا التّقهقر، فقلت لها القراءة هي الحل، فشَعرَت أنّني لا أُعير كلامَها انتباهاً ولا أهتمّ لأمرِها فصمَتتْ، ولكنّي أكّدتُ لها بأنّني جادّة فيما أقولُه وأننّي حقاً أريد مساعدتها وأنّه لطالما كانت القراءة بمثابة حبل نجاة من وعثاء الحياة، وستعيشين جمالا ومعاني لم تعرفيها سابقا فالقراءة غيّرت أُمَماً فما بالكِ بحياة فرد ما، ألم تكنْ "اقرأ" أوّل ما تنزّل على سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم يكفي أن نسْتشعِر عظمة هذِه الآية حتّى نفْهَم مدى أهميّة القراءة والكُتب في حياتنا ولا يشعُر بهذا إلاّ من ذاق حلاوة القراءة فما كان له إلاّ أنْ يطلُب المزيد في كلّ مرّة كأجمل وأفضل إدمان يُمكن أنْ يعيشه الفرد.

إذا كان هناك ما يسمّى بالنّصيحة الأبديّة أيّ تلك النّصيحة التي تصلح في أيّ زمان ومكان ولِكِلا الجنسين ومع الكبير والصغير، كوصفة الحياة السحرية التي تجعل من الكتاب فنّ حياة وممارسة القراءة كضرورة وحاجة وليس اللّجوء إليها كنوع من المُتعة، أو أمراً زائداً في الحياة يُمكِن الاستغناء عنه متى أردنا، وذلك لما تحملُه لنا الكتب في طيّاتها من أسرار وجمال وفائدة، نصيحة مفادُها "ابدأ القراءة… اقرأ… اقرأ وفقط… اقرأ كل شيء… وعن أي شيء… اقرأ أينما كنت… اقرأ دائماً" نصيحة نلخّصها فنقول "إمّا حياة مع الكتاب وحياة بالقراءة وإلاّ فلا".

القراءة شفاء للعقول والأنفس والجسد كونها تقدم "وصفة كتبية وليس طبية"، فهي تعدل ضربات القلب وتخفض التوتر وتخفف الضغط أفضل من المشي أو الاستماع للموسيقى أو ممارسة رياضة معينة أو شرب كوب من القهوة

"النّور موجود في الكتب… اِفتح الكتاب على مِصرعيه… دَعهُ يشِّع… دعهُ يفعل" فيكتور هيجو.
كيف نفسّر ذلك الانعزال الذّي يعيشه الفرد برُفقة كتاب معيّن وقد يجلس معَه لساعات دون أن يشْعُر بالجوع أو العطش، لعلّه بقراءته له يحقّق راحة وشبعاً وارتواءً من نوع آخر، فهو يتذوّق طعم كلِماتِه ويرتوي بمَعانِيها ويسافِر فوق أجنحة أوراقه، عن ذلك النّوع من الفضول الذي نعيشه أثناء القراءة وفي الوقت نفسِه ذلك الصبر الذّي نتفنّنُه ممّا يسمح لنا بتبنّي نوع من الاتّزان في كلّ أمور حياتنا، عن قوّة تلك القصص والتّجارب التي تمرّ علينا من خلال قراءتنا للكتب والتّي قد تُكسِبُنا خبرات شخصية حقيقيّة بالرّغم من كونِها تمارين افتراضيّة، معاني وقيّم قد لا نجدها في الأشخاص المُحيطين بنا أو حياتنا الشخصية ولكن تعلّمها لنا الكتب فالكتاب قد يكون مربّي ومرشد حياة أيضا.

في كلّ الأزمان والفترات أثبتت القراءة أهميّتها وضرورتها وكانت بمثابة المَخرج من كلّ الأوحال والصعاب فهي تفتح العقول والقلوب وترشدنا إلى الصواب، ولا يمكن لأي أحد أن يُنكِر مدى تأثيرها الإيجابي في حالة الفرد قبل وبعد. بالقراءة نتعلّم ونتعرّف، نتوسّع، نفهم ونتفهّم، بالقراءة نتصالح مع دواخِلنا ونواقصِها، نتحرّر أكثر من أفكارنا ومشاعِرِنا وآرائنا، بالقراءة ننتَقي خيَاراتنا ونحترمها، ويُصبح ليس هناك حدود لأمور معيّنة في حياتنا، وليس هناك الأخرى التّي ليس لها تفسير، بالقراءة نُمارس التفكير فنتعلّم مبدأ النّعم واللّا، نتعمّق في المواضيع ولا نعترف بالسطحية.

بالقراءة نتنفّس الحاضر ونتفرّس في الماضي ونستشْرف المستقبل، نستوعِب المعنى وعكسَه ممّا يجعلنا نُترجم المعاني بِطُرق كثيرة ومختلفة، وتجنّبُنا اللّجوء إلى بعض الأساليب المنفّرة كالأمر والنّهي أو النّصيحة حتى، يكفي أن نعطي رأس الخيط للطرف الآخر دون أن يشعر بذلك، بالقراءة نفهم أكثر ونريد أن نفهم، نردّ على تساؤلاتنا، نفهم منحى حياتَنا وسُنَن الحياة كَكُل من خلال ما تحمِلُه الكتب من أحداث وأخبار.

لقد صنع البعض مجدهم بالقراءة فكتبوا لنا قصصهم ومغامراتهم وكيف واجهوا الصّعاب وخاضوا المعارك وتحمّلوا الآلام، حتى أوقات راحتهم وامتنانهم أيضا فتركوا أثرا. فهي تدفع إلى الابداع وتوسّع الخيال والالهام لدى الفرد، بل تزيد من قوة الإبداع لديه، بالقراءة تتغير لدينا مبادئ وقناعات لطالما كنا نعتقد أنها صحيحة أو أمورا نجهلها حقا، وكناّ لا نخوض حتى الحديث فيها، بالقراءة تتكوّن لنا مرجعيات التعامل مع مختلف الأشخاص والتفاهم معهم، نكتسب قوة الاقناع، ونفهم معنى النقد، وأساليب التحدث الجيد، وما يجب أن يقال ولمن يقال ومتى يقال وكيف يقال، بالقراءة نتعلّم الاحساس أكثر بالغير، تجعلنا نعيش بطريقة أفضل كوننا لا نعيش صراعات من الأفكار خاصة السلبية منها، فنعيش في تناغم مع ذواتنا ومع المحيطين بنا، بالقراءة أيضا نستطيع مواجهة صعوبات الحياة ومقاومتها والتغلب عليها والخروج منها.

قراءة بعض الكتب قد تنقلك من صحراء قاحلة إلى جنة غناء، كونها تفتح لديك نوافذ جديدة تطل على حدائق خضراء، نوافذ لطالما كانت مغلقة على إطلالة مرتفعة جدا ترى منها الأشياء بطريقة مختلفة

"لا يوجد حقا إلا أمران اثنان يستطيعان تغيير الفرد إما حب كبير أو قراءة كتاب عظيم". إن كل هذا الذي تحدثه القراءة في نفس الإنسان جعلها تصبح كنوع من العلاج فكانت الببليوتيرابيا أو العلاج بالقراءة، فاعتبرت المكتبات كمستشفيات للعقول، وكان الكتاب كدواء عالمي والقراءة علاج ذاتي كضرورة لتحقيق السعادة والراحة، لنكون أفضل برفقة كتاب، لننهض من حالتنا تلك ونستكشف الحياة أكثر ونفهم انفسنا بواسطة القراءة والكلمات من خلال إسقاط تلك القصص والتجارب بشكل ما على أنفسنا ولعل هذا هو المبدأ الذي تتكون حوله البيبليوتيرابيا بهدف بناء الذات ويكون الفرد أفضل رفيق لنفسه، لأنه في الحقيقة كل قارئ عندما يقرأ إنما هو يقرأ نفسه، فبدل الذهاب للصيدلية لتجد حلا لتوترك وقلقك يمكنك التوجه لمكتبة لتختار كتابا قد يجعلك أفضل.

وما تخبرنا به الدراسات عن أهمية القراءة بالنسبة للفرد يؤكد لنا أن القراءة شفاء للعقول والأنفس والجسد كونها تقدم "وصفة كتبية وليس طبية"، فهي تعدل ضربات القلب وتخفض التوتر وتخفف الضغط أفضل من المشي أو الاستماع للموسيقى أو ممارسة رياضة معينة أو شرب كوب من القهوة، فعند القراءة يتشتت خيال ذاكرتنا لوقت معين لأننا نغوص بالكتاب مما يخفف التوتر، وكأننا نبتعد عن منغصات الحياة وانشغالاتنا في الواقع والتي تسبب ضغوطات كبيرة، كما القراءة المنتظمة تنمي حس التأمل مما يعمل على تنشيط مناطق معينة من الدماغ والتي لها فائدة كبيرة فهي رياضة لعقل وتدريب له، كما أنه عادة القراء يتمتعون بصحة بدنية جيدة، فهي تساعد على النوم الجيد، ويتمتع القراء براحة وهدوء أكثر بسبب القراءة، كما أنها تنمي الذكاء لدى الفرد مما يسمح بمعالجة المعلومات وترتيبها وربط الأفكار فيما بينها وتحليلها، وتحسن التركيز، وبما أن الكتب تحاكي الواقع فهي تنمي الخيال وتغذي حس التعاطف والإيثار لديه وتمنحه القدرة على التواصل والثقة بالنفس، فهي تحاكي الروح ولكنها تتجلى في العقل والجسد معا، فإذا كانت هناك فيتامينات معينة أنت بحاجة إليها من موسم لآخر كذلك القراءة هي فيتامينات كل الأوقات ولا يمكن اهمالها بأي شكل من الأشكال.

“ما الذي نعرفه عن الحب والكراهية، والمشاعر الأخلاقية.. وبصفة عامة كل ما نسميه بالذات، إذا لم يكن قد تم تقديمه إلى اللغة وصياغة الأدب؟" بول ريكور

إن قراءة بعض الكتب قد تنقلك من صحراء قاحلة إلى جنة غناء، كونها تفتح لديك نوافذ جديدة تطل على حدائق خضراء، نوافذ لطالما كانت مغلقة على إطلالة مرتفعة جدا ترى منها الأشياء بطريقة مختلفة عن ما كنت تراه قبل أن تفتح لك تلك النوافذ وتقرأ هذه الكتب، عن تلك الاقتباسات المذهلة التي تلامس قلب دواخلنا وتبقى راسخة في ذاكرتنا فتكون بمثابة قاعدة أو مبدأ حياة بالنسبة لنا كون صاحبها عبر عن أمور لم نستطع نحن أن نترجمها ولكنه وصفها وصاغها بشكل دقيق فبقينا مذهولين أمامها، في القراءة نضحك ونبكي ونهرب ونسافر ونحزن ونفرح ونتفاعل مع أشخاص لا نعرفهم ولكننا نجتمع معهم في كتاب معين فيكون بمثابة ملتقى نتشارك فيه الانسانية، كما أنه ليس هناك أسهل من التعامل مع القراءة فهي تشعرنا بنوع من الرضى اللّحظي جميل جدا، كونها تمنحنا خيارات أو حقوق فهي تعطينا حق القراءة من عدمها، حق تجاوز الصفحات أو عدم إكمال الكتاب، حق إعادة القراءة وقراءة أي شيء، حق القراءة في أي مكان وفي أي وقت، القراءة بصوت مرتفع أو بالهمس أو الصمت كليا، إنه رضى يطال جميع الحواس.

قيل عندما أفكر في الكتب الذي لا زلت لم أقرأها.. أتأكد بأنني سأكون سعيدا فالقراءة بمثابة صناعة للسعادة بالكتاب، "كوصفة كتبية" للشفاء ونكون أفضل وبمثابة مكتبة داخلية للفرد ومصدرا للأمن الاجتماعي فهي تساعد على العيش لمن يريد أن يحيا كما يجب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.