يقولُ صديقي السوسيولوجي الروائي محمد بنجدي، إنّ مدننا عبارة عن قرى متحضّرة، وسياراتنا خيلٌ حديدي وطرقاتنا سبلٌ نقطعها ركباناً كقوافل البعير والإبل. نظرةٌ سوسيولوجية لعالمنا الذي تغزوه العشوائية ويغلبُ عليه منطقُ الاندفاع واختراق قانون المدينة والمكان العام، فإلى أي مدة يمكن اعتبار مدينتنا مدينة حقيقية ؟، وما مظاهر القرية في واقع مدينتنا ؟، وكيف يمكن اعتبار المدينة قرية أكثر تحضراً بقليل من القرية وأقل حضارة من المدينة؟
لا شكّ أن المتأمل لمفهوم المدينة لدى المتخصصين في علم الاجتماع الذين يعرّفون مفهوم المدينة أمثال فيبر ولوريس وورث وغيرهم على أنّها كيانٌ إداري وسياسي واقتصادي لهُ عدّة أبعاد وتطبعهُ عدّة ميزات تجعل منه فضاءً لعلاقات معقدة وتركيبة سكانية مركبة، يجمعها طابعٌ عمراني مكثّف وأنشطة مختلفة. غيرَ أننا في مدننا رغم ما يمكنُ إسقاطه من مفاهيمَ مختلفة تعرّف المدينة منذ التاريخ، من حيثُ النشأة والتكوين فإننا نجدُ في مدينتنا طابعاً قروياً لا يقل شبهاً عن القرية.
من الناحية العمرانية، توجدُ عمارات من عشرات الطوابق، وبجانبها عمارة من طابقين ثمّ أخرى من طابق واحد، لا تتطابق المعايير مع سياسة المدينة بقدر ما تتطابق مع قدرة صاحبها المادية على بناء ما يستطيع أن ينفذ إليه رأسمال |
ففي المدينة التي أقطنها مثلا، أكادير في الجنوب المغربي، رغم العمران والكثافة السكانية، لا يخفى على الإنسان الطابع البدوي للمدينة وأصلها الذي هو امتداد للقرية وتوسّع وتطور لمفهوم القرية نحو المدينة. فيمكن أن تجدَ قاطنا بالمدينة يربّي حيواناته الأليفة وماشيته في المنزل، في السطح أو في مكان خاص في إقامته التي تقع على الشارع العام. ثمّ لا يخفى على الناظر طريقة ركن السيارات على جنبات الطريق. يعمدُ كلّ سائق إلى وضع السيارة في الاتجاه الذي يطيبُ لهُ، ويركنها كما يحلو له بجانب قارعة الطريق.
كما تربطُ الخيلُ في مضاربها في الأسواق البدوية القديمة، يوضع كلّ حصانٍ أو بغل في مكانٍ قريب من آخر وفي الاتجاه الذي يحلو لصاحبه فنجدها عادة انتقلت من الحصان إلى السيارة، وتقلّدها رجلٌ كانَ قد ألف الحصان من قبل ثمّ تطوّر ليصبحَ حصانهُ مركبة تسيرُ على الإسفلت، لها أربعةُ أرجل ولجامٌ من حديد.
وكلّما مررت بشارع العام، يقطع كلّ مار من المكان الذي يراهُ مناسباً له، بينما تبقى أشرطة عبور الطريق فارغة طيلة الوقت، لا يعبر منها إلا القليل. سألتُ أحدهم ما إذا كان قد رأى شريط العبور وهو يعبر الطريق، فأجاب بأنه ليس في نيويورك أو باريس ليتبع سياسة العبور من الشريط. إننا أناسٌ لا نخضعُ لقانون المدينة ولا ينطبق علينا سياقها رغم ما يبدو من تشابه في معايير البناء والعمران بين باريس وأكادير أو مدينة مغربية.
ومن الناحية العمرانية، توجدُ عمارات من عشرات الطوابق، وبجانبها عمارة من طابقين ثمّ أخرى من طابق واحد، لا تتطابق المعايير مع سياسة المدينة بقدر ما تتطابق مع قدرة صاحبها المادية على بناء ما يستطيع أن ينفذ إليه رأسماله. إنّها أقربُ للقرية بكثير منها إلى المدينة، ففي القرى يبني الناس منازلاً حسبَ القدرة المادية لأصحابها، إذ يعمدُ أحدهم إلى بناء منزل فخمٍ ومعقدّ البناء، بينما يقبع خلفه منزل صغيرٌ يبرزٌ مكانة صاحبه المادية المتدنية. كذلك يفعل سكان المدن الذين يزينون منازلهم بشرفات تختلف الواحدة عن الأخرى، وواجهات يتفنن صاحبها على إبراز مكانته المادية، مبرهنا بذلك على عقليته القروية المتوارثة عن طريق نقل سكان القرى للمدن. وهي العملية التي بنيت على أساسها كلّ المدن في المغرب.
كما لا يخفى علينا وضاع السوق الأسبوعي الذي هو تجسيد خاص بالقرية يطبع المدينة، ففي أكادير مثلا أسواق أسبوعية وسويقات تنشأ في كلّ تجمع سكاني. لا سند قانوني أو اقتصادي لها، لكنّها تؤسس على الشارع العام وأمام المساجد وفي أماكن عامة. تخلف تجمعات لتجار الخضر والسلع بمختلف تجلياتها مبرزة حنين ساكن المدينة إلى طابعه القروي الذي يَعتبر السوق الأسبوعي شيئاً لا محيد عنه في تكوين ونشأة أي عمران أو تجمع سكني متحضر.
نجدُ أنفسنا أمام ظاهرة لا تعرّفها معاجم السوسيولوجيا، بحيث هيَ مسخٌ خلقَ من القرية ويحمل جينات المدينة، مشوه التكوين، غريبُ المظهر وتجوبهُ ساكنة تعيشُ انفصاماً تاريخيا مجتمعياً |
ولعلنا قد أسرفنا في الحديث عن مظاهر القرية في مديتنا، إلاّ أننا ربما أغفلنا طابع المدينة فيها، فتجمع السكان وإطارها العمراني رغما ما يشوبه من عشوائية، يعتبرُ تجسيداً للمدينة. بالإضافة إلى إطارها السياسي من حيث وجود حكومة تقود المدينة ومراكز اقتصادية مترامية وشركات عابرة للقارات، وجميع هذه المظاهر من أسس علم الاجتماع الحضري الذي يدرسُ سلوك المدينة وأسسها. إلاّ أننا نقفُ عند علامة استفهام واضحة، ما مدى تمثل مدينتنا لمفهوم المدينة من حيثُ الحضارة والوعي؟
لا يمكنُ الإجابة عن السؤال دون المرور عبر الشارع العام، رؤية ما يدور والوقوف عن بعد لتفحص أحوال مديتنا التي هي امتداد لقرى جبلية هبَط أهلها أرض المدينة فأنشئوا إطاراً عمرانياً وتجمعا سكانيا. غيرَ أن الوعي بحسّ المدينة وهويّتها التي تحكم العلاقات العامة وتطبع تصرفات السكان كما في نيويورك مثلا، أو طوكيو وغيرها من المدن الكبيرة التي تعبّر بحقّ عن معنى المدينة.
يحيلنا هذا على رؤية علماء الاجتماع للمدينة ومدى استحالة التوافق على تعريف معينّ لها. ولكنّ الوعي والحس بشعور الانسان المتمدن شيءُ نفتقده عن غالبية سكان المدينة الذين لا يحترمون أسس التمدن ومبادئ التحضر. حيث لا يدفعك المجتمع إلى تكوين وعي بمنظومة متحضرة تنشأ على وقع هذا التمدن والتجمع السكاني، بقدر ما تجدُ نفسك في فضاء منسوخٍ منسلخ عن القرية تشوبه عيوب كثيرة وتميزه شوائب الحضارة التي امتزجت بالقرية فخلقت لنا عالما خاصاً، لا هو قرية محضة وليس بمدينة حقّة، وهو بالتأكيد قرية متمدنة شاسعة التوسع وكثيرة السكان.
نجدُ أنفسنا أمام ظاهرة مجتمعية غير معتادة، لا تعرّفها معاجم السوسيولوجيا، بحيث هيَ مسخٌ خلقَ من القرية ويحمل جنات المدينة، مشوه التكوين، غريبُ المظهر وتجوبهُ ساكنة تعيشُ انفصاماً تاريخيا مجتمعياً، انسلخ جلدها عن الماضي لكنّها ما تزال تحملُ عاداته وتقاليده وتنقل لنا عبر الأجيال طابعاً بدويا متأصلاً ممزوجاً بلمسات متحضرة، ترى نفسها في فضاء جديد تروم خلاله تكوين المدينة، لكنها لا ترغبُ في التوقف عن رؤية المرأب مضرباً، والساحة سوقاً والعمرانَ مسألة خاصة، والسيارة بغلاً، وتأبى بذلك الانخراط في مفهوم بناء مدينة حديثة، غيرَ أنها تطمح، ويا لغرابة طموحها، في أن تقفَ إلى مصاف المدن الكبرى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.