شعار قسم مدونات

أجيال الفوضى السورية!

blogs سوريا

يمكن للمجتمعات في الدول أن تتسم بالانفتاح مثل المملكة المتحدة وأمريكا، أو الانغلاق كالسعودية، ويمكن أن تتصف أخرى بالبرود والهدوء في طباعها وتقاليدها وعاداتها كالمجتمعات الاسكندنافية، فيما بعض المجتمعات تتميز بصفات محددة كالمجتمع الياباني الذي يميزه الاحترام مثلاً.. لكن ماذا عن مجتمعاتنا؟

   

الأعداد بالمئات، العشرات من النساء والأطفال الزاحفين على الأرض وعلى الجدران وتحت كراسي الانتظار، العشرات من الرجال والشباب ممن يفترشون الأرض والأرصفة وكراسي الانتظار، يملؤون الأرض بأعقاب السجائر والأوساخ، دون الاكتراث بيافطات السلامة والنظافة والتعليمات والنظام، الحراس يصرخون وينظمون، ومن الواضح أنه لا جدوى من صراخهم أو تعليماتهم.. فلا أحد يصغي سواء أكان يفهم لغتهم أم لا يفهمها، فالفوضى تعم المكان بكل أشكالها.

 

سمسار يقف على باب المركز أو الدائرة، وآخر يقوم ببيع هويات وجوازات مزورة، وزميله على الهاتف يقوم بحجز مكان لشخص لا يستطيع تحمل هذا الزحام فيقف في مكانه حتى يأتي دوره فيتصل به ليأتي لمقابلته بشكل مباشر دون عناء الوقوف، سيدة تضرب أحد أبنائها وتصرخ في وجهه.. بينما أخوه الرضيع منكب على ثديها يرضع رغم وجود زاوية مخصصة كتب عليها (للرضاعة)، الأب يقف وكأنه عمود يسند الجدار خوفاً من أن يسقط.. يدخن سيجارة تحت أشعة الشمس الدافئة واليافطة أعلاه كتب عليها (ممنوع التدخين)، يخرج من الدائرة شخص على كرسي لذوي الاحتياجات الخاصة يملأ وجهه الكرب والهم، و بعد لحظات على خروجه من باب الدائرة الحكومية يدب الله فيه الشفاء والقوة.. يقف على قدميه.. يقوم بطيّ الكرسي وحمله وينطلق إلى حياته!!.

  

حين تكون الحكومة على قدر عالٍ من المسؤولية تجاه مواطنيها وتقوم بزرع قيم الحضارة والنظام واحترام القوانين في مواطنيها من خلال احترامها للفرد يكون الناتج هو احترام المواطن لنفسه ولغيره وللأنظمة

الموظف يتكلم مع أحد المراجعين: (يا عم إذهب وأحضر هويتك وباقي الأوراق المطلوبة) فيبدأ الرجل الكهل بالتوسل والمسح على ذقنه قائلاً: (مشيها كرمالي يا عمو) فيعود الموظف ويقول (يا عمو هذا نظام في سيستم ما بتمشي المعاملة مالي علاقة أنا) ليعود الكهل للابتسامة ويمسح على ذقنه ويقول (كرمال هل الذقن مشيها يا عمو) فيعتذر الموظف، ليخرج الكهل من الدائرة منهالاً بالشتائم على ذلك الموظف الحقير الذي ينتقم من السوريين!.

 

هذه الأمثلة على سبيل الذكر وليس الحصر، وليست لتوجيه الاتهامات إلى أحد، إنما للإشارة إلى الثقافة المنتشرة في جميع تفاصيل حياتنا، هذه الفوضى لا بد لنا أن نعترف بأنها أصبحت جزءاً من هويتنا، في ظل هذا الشتات والهجرة واللجوء في أصقاع الأرض، شئنا أم أبينا إنها إحدى سماتنا وصفاتنا النفسية التي كبرنا وترعرعنا عليها في أحضان بلدنا (سورية).

 

فلنأخذ لحظة صمت ونبتعد عن المشهد لبرهة ونمعن النظر أكثر في ثقافتنا الحالية ونرى إلى أي حد وصلت تلك الفوضى ونراقب بضعاً من أضرارها الجانبية بعيداً عن الدوائر الرسمية والحكومية وأشباهها.

  

هاتف محمول يرن، شخص في الزاوية يتحدث عبر الهاتف بصوت منخفض وآخر يحاول أن يستمع لما يقوله المحاضر، وسيدة تتكلم مع التي بجانبها، وآخر يتكلم مع المحاضر بصوت مرتفع.. وضوضاء تعم القاعة، المحاضر يحاول قدر الإمكان أن يجذب انتباه الحاضرين.. لكن للأسف في كل مرة يستقر فيها الوضع لثواني يكسر الصمت والهدوء صوت رسالة واتس أب أو رنين هاتف، علماً أنه يوجد في زاوية القاعة يافطة كتب عليها (يرجى وضع الهاتف على الوضع الصامت).

 

على جانب الاجتماع أو المحاضرة أحاديث جانبية حول طاولة البوفيه، فجأة وبدون مقدمات الأول (خيو والله ما حبيته لهل الأستاذ) وكأنه يعرف محدثه منذ سنوات طويلة ليفضي له ما بداخله تجاه المحاضر ويكمل: (بيعين الله من وين أنت أبو حميد) والطعام يملأ فمه، فيجيب الثاني بجملة قصيرة ومحدودة باديةً عليه علامات عدم الارتياح.. ليكمل الآخر (لك خيو والله جاية من آخر الدنية بالمواصلات وتبهدلنا لوصلنا لهون لو قربو المركز شوي مو أحسن).. فيحاول الثاني التملص من الحوار، فيرن هاتف الأول وينهي الحوار بدون الاعتذار أو الاستئذان (أي أبـــ حدو شو عم يصير معك) ويبقى الآخر مذهولاً لما جرى أمامه في لحظات.

 

أحد المطاعم السورية وبعد افتتاحه بفترة وجيزة لم يكن بحاجة لأن يقوم بأي دعاية أو إعلان عن افتتاحه، فالطريقة التي يقوم بها في صف الكراسي والطاولات على رصيف الطريق العام أكبر دليل على وجود محل سوري في هذا المكان، دون الأخذ بعين الاعتبار المارة أو قوانين البلدية، ناهيك عن القمامة والأوساخ التي يرميها الزبائن على الرصيف والأرض، أحد الزبائن كبير في العمر يقول لصاحب المطعم باختصار (يا غريب كون أديب) ليرد الآخر (أي إشبك حجي طول بالك يعني العالم بدي تاكل ويــ بدا تروح بحالها، تعا يا عزو طلاع قيم الزبالة).

 

هذه الشخصيات ليست بالنادرة الوجود، إنما نقابل منها الكثير وما يبدر عنها ليس بالجديد، كما أننا لسنا بصدد التقليل من شأن أحد ولكن علينا أن ننظر أكثر، هذا جزء يسير من أثر الفوضى على ثقافتنا، عدم احترام الآخر والقوانين والآداب العامة يبدو وبشكل جلي أنها متأصلة في مجتمعنا وأننا قمنا بنقلها معنا إلى بلاد المهجر، ولكن هنا يكمن السؤال: من المسؤول عن ترسيخ هذه الثقافة، هذه العشوائية والفوضى والفساد وعدم احترام القوانين ومراعاة حقوق الآخرين؟

 

الفاجعة الأكبر لا تكمن في أجيال الألفية السابقة؛ بل في أجيال الألفية الراهنة التي ورثت هذه التقاليد والعادات بشكل تلقائي من مجتمعها بالإضافة إلى الدمار والخراب والانحلال الذي شهدوه في السنوات الأخيرة

الجواب باختصار هو (الدولة والمجتمع)، حين تكون الحكومة على قدر عالٍ من المسؤولية تجاه مواطنيها وتقوم بزرع قيم الحضارة والنظام واحترام القوانين في مواطنيها من خلال احترامها للفرد يكون الناتج هو احترام المواطن لنفسه ولغيره وللأنظمة والقوانين على اختلاف البلدان والأماكن.

 

يقول الدكتور مصطفى حجازي في كتابة الإنسان المقهور، عن عوامل التخلف العقلية العربية "إن لب تخلف العقلية يمكن في نظرنا في أسباب اجتماعية سياسية، هي المسؤولة عن نمط الإنتاج وأدواته وتقنياته وانعكاساتها على الذهنية. هذه الأسباب تذهب في رأينا في الوطن العربي على الأقل في اتجاهين أساسيين مترابطين هما: سياسة التعليم في المجتمع، وعلاقات التسلط والقهر السائدة فيه".

 

ولتوضيح هذا الكلام أكثر نستطيع أن نرى كيف أن الحكومة تعمل بشكل ممنهج ومنظم على نشر هذه الثقافة في جميع دوائرها ومنظماتها ومؤسساتها بشكل علني وضمني دون أن يكون لديها المسؤولية تجاه أي من مواطنيها على أي صعيد ، فأزمة الكهرباء والمحروقات التي يمر بها المواطن ليست ببعيدة عن أزمات سابقة مررنا بها في التسعينات أو الثمانينات من القرن الماضي، لا يمكن أن ننسى الذكريات التي صبغت طفولتنا وشبابنا والساعات التي كنا نقضيها في الطوابير على أبواب المؤسسات العامة لشراء (البندورة) أو (السكر) وأيضاً الأيام التي نهدرها في دوائر الدولة بانتظار تسيير أمور معاملة في حين أن الموظف يكون لديه ألف سبب كي لا يعمل ويسبب الفوضى

 

في لحظة يدخل فيها عسكري برتبة أو من دون رتبة إلى الموظف ليطير فوق جموع الناس وينهي ما أتى من أجله العسكري في ثواني مع تحية (أهلا بالحبيب، سلم عبو فلان)، لا يمكن أن ننسى موظفة النفوس التي كانت تقوم (بفرم البقدونس) خلال ساعات الدوام، ولا يمكن أن ننسى موظف الهجرة والجوازات الذي رفض إنهاء معاملة الجواز وأجلها لليوم التالي، ليتضح لاحقاً أننا نسينا أن نضع (المعلوم 200 ليرة) في المعاملة.

 

جميع هذه التصرفات والآليات تدفع المواطن بشكل واعٍ أو غير واعٍ لأسقاط حرمة القانون وتجاوزه بجميع أشكاله لتسيير أموره وحياته سواء بالواسطة أو بالرشوة أو بالتهرب، وهذا ما ترعرعت عليه أجيالنا لسنوات طويلة.

 

والأمثلة لا يمكن حصرها على صعيد الداخل، أما على صعيد الخارج يمكننا ببساطة إلقاء نظرة على السفارات والقنصليات في دول المهجر أو الدول التي تحتضن المهاجرين واللاجئين، فما تقوم به واضح وجلي وهو إعادة إحياء هذه الثقافة في داخل المواطن السوري حتى لو بقي سنين في بلاد يسودها القانون والنظام واحترام الآخر (فالقنصلية السورية في إسطنبول) أكبر دليل على ما نتحدث عنه ليبقى السوري رهين تلك الثقافة مهما عاش من تجارب مغايرة.

 

الفاجعة الأكبر لا تكمن في أجيال الألفية السابقة؛ بل في أجيال الألفية الراهنة التي ورثت هذه التقاليد والعادات بشكل تلقائي من مجتمعها بالإضافة إلى الدمار والخراب والانحلال الذي شهدوه في السنوات الأخيرة.

 

أتمنى أن أكون مخطئاً إذ أقول إن هذه الأجيال لا يمكن إصلاحها، ففي ظل غياب الرقابة وانتشار الفساد في المناطق التي تحت مظلة الحكومة أو التي تخضع للمعارضة والتي تحكمها فصائل وكتائب مسلحة، وفي المخيمات وبين أشلاء المجتمع السوري الممزق نشأت أجيال جعلت شعارها في الحياة: (انجُ بنفسك مهما كلف الأمر فلست معنياً بأحد) فكيف لنا أن نعيد إصلاح هذه الأجيال؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.