شعار قسم مدونات

الخيال العلمي في الأعمال الأدبية

blogs مكتبة

إن التطور العلمي المشهود فتح أمامنا آفاقا قلّما تخيلها الإنسان من قبل. فالأنترنت والتكنولوجيا والآلات الحديثة ووسائل الإعلام الاجتماعية تسببت لتغير المزاج العام للقراء والكتاب والنقاد، واضطرت الأوضاع إلى أدب يجيب عن جميع هذه المتطلبات المعاصرة والمستقبلية، واحتاج الإنسان إلى أدب يتناول اتجاهات وتطورات العلوم الحديثة، فكتب العلماء روايات تتناول هذه الموضوعات، وسموها النقاد "أدب الخيال العلمي".

 

وتحاول الأعمال الأدبية للخيال العلمي من خلال القوى الإبداعية التي تعتمد على الحدس والتلقائية تقديم صورة متخيلة عما سيئول إليه عالم اليوم في المستقبل وتكشف هذه الأعمال عن التكامل بين العمل الروائي في مجال الخيال العلمي والإكتشافات العلمية الحديثة والأوضاع المستجدة في حياة الناس، كما تكشف عن قوة العلاقة بين التفكير العلمي الموضوعي والخيال العلمي الذاتي حول المستقبل رغم الإختلاف والتباين في أسلوب المعالجة والهدف.

 

تجد المجتمعات الغربية في هذه الأعمال المتخيلة عن العلم وعن المستقبل وظيفة أخرى عملية وتربوية تتعدى حدود المتعة الذهنية الخالصة

وليس من الضروري أن تتحقق كل توقعات كتاب الخيال العلمي عن المستقبل فأعمالهم تسجل فقط نظرتهم الخاصة إلى ما يتصورون أنه اتجاه عام لتطور الأحداث والأوضاع التي يعيشونها، وكثيرا ما تتحقق هذه التوقعات أو جانب منها بالفعل،  كما هي الحال مثلا بالنسبة لرواية "آلة الفضاء" التي توقع فيها المؤلفان الأمريكيان "فريد بوهل" و "سي إم كورنيلوت" ظهور عالم جديد تديره وتتحكم في كل شؤونه وكالات الإعلام، وهو ما يحدث بالفعل إلى حد كبير، أو كما هي الحال بالنسبة للكتابات العلمية الخيالية الكثيرة التي تدور حول التوصل إلى استخدام القوة النووية وذلك قبل أن يبدأ علماء الفيزياء التفكير الجاد في إمكان الوصول إلى هذه القوة والخطوات التي تساعد على ذلك.

 

فالخيال العلمي يسبق في كثير من الأحيان البحث العلمي الموضوعي ويهيئ الأذهان لقيامه أو حتى يدعو للسير في اتجاه معين لتحقيق مكاسب واكتشافات علمية وتكنولوجية دارت أذهان المؤلفين الروائيين قبل أن تخطر على بال العلماء المتخصصين، والشئ نفسه يمكن أن يقال للأعمال الخيالية حول القيام برحلات إلى الفضاء وغزو الكواكب الأخرى أو هبوط مخلوقات عجيبة من سكان هذه الكواكب إلى الأرض،  والحقيقة أن روايات الخيال العلمي لم تتبلور وتتضح معالمها إلا مع ظهور الكاتب العبقري الفرنسي (جون فيرن) (1828-1905)، الذي تبنى هذا النمط من الادب وأعطاه شكلا حديثا ، متقنا، ليصبح بعد ذلك الأب المؤسس له من خلال روايته"رحلة إلى جوف الأرض"1864م، "من الأرض إلى القمر"1865م، وكتب أيضا عن الطائرة النفاثة والصواريخ بعيدة المدى والغوص في أعماق المحيطات وكلها تنبؤات تحولت إلى حقيقة.

 

ولا ننسى "هربرت جورج ويلز" (1866-1846) الذي وصفه النقاد بـ (شكسبير الخيال العلمي) كتب أول رواياته الخيالية (آلة الزمن) 1895م، والتي تعد أعظم روايات الخيال العلمي على الإطلاق وفي عام 1901م كتب رواية (رجال القمر الأوائل) تلتها أعماله الكثيرة المتنوعة. ويحتل المؤلف الأمريكي الروسي المولد "إسحاق أزيموف" (1920-1992م) الذي حظي بمكانة مرموقة بين رواد كتاب الخيال العلمي، بفضل كتاباته التي أينعت في رياض خياله الخصب، ومعرفته العلمية الواسعة، التي اتصف بهما.بحيث كتب ما يقارب 400 كتاب للصغار وللكبار تركزت معظمها على العلوم الثقافة وأشهر كتبه هنا (أنا الإنسان الآلي) عام 1950م.

 

و يعتبر بعض النقاد والعلماء كل هذه الأعمال كتابات أدبية إبداعية توفر للقارئ قدرًا كبيرًا من المتعةِ الذهنية وتستثير خياله حول مستقبله ومستقبل المجتمع الذي يعيش فيه أو حتى حول مستقبل الإنسانية كلها فيما لو تحققت تلك التوقعات (الخيالية) على أرض الواقع .و هذه في حد ذاتها وظيفة للأعمال الأدبية المستقبلية التي تستحق الاحترام ولا يمكن التهوين من شأنها.

 

وتجد المجتمعات الغربية في هذه الأعمال المتخيلة عن العلم وعن المستقبل وظيفة أخرى عملية وتربوية تتعدى حدود المتعة الذهنية الخالصة، فقد أدركت الدول الغربية ضرورة توجيه الأطفال منذ الصغر إلى قراءة هذه الأعمال حتى تكون جزءا من تكوينهم الذهني ، وبحيث تكون دافعا لهم في المستقبل على التفكير الجاد للخلق والإبتكار والإختراع.و لذا تهتم مناهج الدراسة في التعليم العام بتزويد التلاميذ بقدر كبير من المعلومات العلمية الطريفة المستقاة من الكتابات العلمية، الخيالية. بل إن بعض الجامعات في أمريكا بالذات أدخلت في مناهجها مقررات عن الخيال العلمي تماما مثلما أدخلت مقررات عن علم المستقبل، مما يدل على إدراك قوة العلاقة بين الإثنين وأهمية الإشتغال بهما معا وعلى قدم المساواة.

 

الصور التي تعرضها هذه الكتابات كثيرا ما تلهم هؤلاء العلماء إلى إمكان إرتياد مجالات جديدة من البحث والتنقيب للكشف عن طبيعة العقل البشري

اهتمت دور النشر والهيئات العلمية بإصدار مجلات متخصصة في الخيال العلمي سواء في شكل قصص أم مقالات تخاطب كل الأعمار. وهذه مسألة لا نعطيها في عالمنا العربي ما تستحقه من عناية في وضع سياستنا التعليمية، وقد يكون ذلك أحد أسباب التخلف في مجالات الكشف والإبتكار والإختراع. إلى جانب عدم إدراك أهمية تطوّر العلم، وإشباع ملكة الخيال مما أدى إلى قصور أدب الخيال العلمي حتى عن المستويات المقبولة، التي تجاوزته تجارب علمية عدة. رغم أنه يعد فرصة ثمينة لعالمنا العربي، لا لغرس حب العلم في نفوس الأفراد فحسب، بل أيضا من المداخل الضرورية والمهمة لإعداد المبدعين في شتى المجالات.

 

والحقيقة عرف التاريخ العربي محاولات عدة من هذا المجال حتى قبل أن يعرف هذا النوع من الأدب بهذا الإسم، كأسطورة (حي بن يقضان) لابن طفيل، وهي أقرب ما تكونإلى أدب الخيال، إضافة إلى أعمال أخرى دونت علامات متباينة، خطها بعض الأدباء والمفكرين العرب، بهدف إثراء هذا النوع الأدبي. ولكن يرى بعض الدارسين أن الكاتب المصري (مصطفى محمود) كان من أوائل من كتب في مجال أدب الخيال العلمي من العرل في التاريخ الحديث، إذ نشر في الستينات من القرن العشرين روايته (العنكبوت) ثم (رجل تحت الصفر) لكن التجربة التي قدّمها الأديب الروائي (نهاد شريف) طوال ما يقرب من نصف قرن من الزمن،  كان لها أثر بالغ في تطويره وتصنيفه، حتى أنه عدَّ رائد أدب الخيال العلمي في العالم العربي، حيث نشر روايته الأولى (قاهر الزمن) عام 1972م، ثم كتب روايته الشهيرة الأخرى(سكان العالم الثاني) 1977م ليتابع مشواره الإبداعي في كتابة كثير من المجموعات القصصية.

 

ومن الكتاب العرب الذين أسهموا في كتابة الخيال العلمي السوري الدكتور(طالب عمران)، ومن أعماله:(العابرون خلف الشمس) 1979م و (ليس في القمر فقراء) 1983م، و(خلف حاجز الزمن) 1985، وهذا الحضور المتواضع في المشهد العربي ساهم في ذلك تصنيفه حتى وقتٍ قصير على أنه أدب شعبي أو تجاري، ما جعل الكتاب وهواة الكتابة غير متحمسين لتجربته. هذه التصنيفات ذات صلة متينة بثنائية "الجد والهزل"، ما يعني وفق هذا التصنيف أنّه عديم القيمة.

 

سبب آخر يورده البعض لتفسير قلة الإنتاج العربي في هذا المجال هو عدم وجود تطور تقني قادر على خلق مساحة رديفة للتفاعل معه أدبياً. لكن في الواقع، قلة من كتاب الخيال العلمي أتوا من خلفيات علمية أكاديمية ونمو مثل هذا النوع من الأدب يكون ضمن بيئة علمية بحثية، وهذا غير متوفر في عالمنا العربي فتكون النتيجة أن (يستورد) الكتّاب الأفكار الغربية التي يدور حولها أدب الخيال العلمي، وهذه الأفكار صنعتها وأنتجتها المجتمعات العلمية التي لا تنتمي لها وبالتالي كان هذا النوع الأدبي مولودا هجينا وغريبا عن هذه الأرض، فأصبح ليس له من الأمر إلا أن كتب بألفاظ عربية فكما يقول الدكتور أحمد خالد توفيق "لأن أدب الخيال العلمي قد ولد خاسرا في بيئة تستهلك العلم ولا تنتجه".

 

إن الخيال العلمي يتخطى إذن الواقع، وكثيرا ما يصل بصاحبه إلى آفاق بعيدة لا يكاد يتصورها ذهن الإنسان العادي، بل إنها قد تتجاوز تصورات العلماء الأكاديميين وتوقعاتهم، ولكن الصور التي تعرضها هذه الكتابات كثيرا ما تلهم هؤلاء العلماء إلى إمكان إرتياد مجالات جديدة من البحث والتنقيب للكشف عن طبيعة العقل البشري وو ماديته المفرطة في هذا العصر. والمهم هو تأثير هذا كله في الحياة الإجتماعية والعلاقات الإنسانية والقيم والمبادئ الأخلاقية التي سوف توجه هذه العلاقات وتتحكم في أقدار الناس.

 

ومن يدري؟! ربما يأتي اليوم الذي يخترعون فيه لصقات جروح غير مرئية لتلك الجروح التي تسببها الكلمات في أرواحنا.. غسول راحة بال يستعمل كل يوم وفي كل الأوقات.. مطهر للنفوس المصابة باليأس، أو شراب مقوي للقلب.. لتلك القلوب الحزينة والمنكسرة أو بخاخ نسيان يستطب في كل الحالات المؤسفة، لا آثار جانبية، لا مضادات استعمال، الجرعة غير محدودة،  التأثيرعام ومباشر.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان