الحالة الأولى:
يستيقظ باكرا، حتّى إنّه ينام في وقت متأخر من الليل. سويعات معدودة هي مدّة نومه، تقطع طريقها أحيانا بعض النبضات المتخلفة عن أخواتها، تدقّ في قلبه بشكل مختلف، وكعابر سبيل تهزّ رأسه من تلك الوسادة؛ لتحيله إلى جلسة مغلقة مع بعض الأحاديث الداخلية في ظلمة الليل. تمرّ أمّه صدفة بغرفته، فتشاهد ضوءً منبعثا من هاتفه المحمول، توبّخه عن بعد، ثم ترميه بعبارة "نوم الليل لا يعوّض يا بنيّ". في الهاتف لا شيء غير صفحة صفراء؛ يذرف على سطورها حروفا استودع فيها شيئا من آهاته، حتّى هو لم يعد يطيق الفواصل الليلية، ويغبط كل الذين غطّوا في النوم، وأسرفوا في الشخير!
في الخزانة العديد من الألبسة الأنيقة، ينتقي الأنسب لنفسيته تارة، وأحيانا الأكثر قدرة على إقناعه بضرورة التغيير والخروج إلى الناس بمظهر يليق، إنّه مجرّد تحدّ وعلاج ذاتي لما يتخلّل نفسيته من ألم لا عرض أزياء. هو يرفض أن يقابل الناس بضعفه؛ لهذا اتّخذ من الشكل قناعا يتستّر به على المعارك الطاحنة التي شنّتها الحياة بداخله، ومن زجاجة العطر أداة يخفي بها آثار الاشتعال الذي يطارد فسائل الحياة التي كانت بداخله. بالهدوء تارة يعبّر عن الصخب الذي يصدره ذلك التغيّظ، وأحيانا بالضحكات التي تجعل الأصدقاء يستمدون منه القوة، والاستشارة، والسعادة، والأمل، ويودعون لديه أسرارهم، وشكاويهم وكل ما لا يُحتمَل. بالبسمة يبطّن أحزانه وأحيانا بالانعزال في مكان ما لمدّة معينة.
عندما يشكو من الصداع تلومه أمّه على شهيّته المسدودة، إنّه نادرا ما يكرم صحنه ووسادته، حتى وزنه لا يزيد. تلومه على نفسه التي جعلها صدقة جارية لمن أراد التنفيس عن همومه، وتفريغ انفعالاته السلبية، تلومه عن نشاطاته التي استبدلها بالفراغ، عن دافعيته المتردية وعمره الذي ضاع، في الوقت الذي يعتقد فيه الغرباء أن خلف تلك البشاشة والفلسفة انجازات خفيّة، بينما لم يخفِ شيئا عدا الاكتئاب!
الحالة الثانية:
لا تظهر أعراض الاكتئاب الباسم للأشخاص العاديين، ممّا يجعلهم يحكمون على المصاب بأنه سعيد وبخير وقد يزيد هذا من معاناته، ويحمّله مسؤوليات فوق طاقته ويزيد من شدّة الاكتئاب لديه |
تسهر لوقت متأخر من الليل، تفتح جميع ملفات الماضي والحاضر، تستذكر محطات الألم والخذلان، تفكّر في أحلامها، ونشاطاتها الجميلة التي ماتت، وفي الواقع الكريه الذي فرضته الدنيا عليها. تتذكر انجازات الماضي؛ قصة جميلة كتبتها؛ حلويات لذيذة أعدّتها؛ رياضة كرة السلة التي أحبّتها؛ مسلسلات مفضلة تابعتها؛ حملات تطوعية كانت تشارك فيها؛ نفسا منعشا كانت تقبل به على الحياة. تتوقف عند كل حدث كان بالأمس مصدر سرور لها؛ هو اليوم يرشّها بالألم. سلسلة من الفشل استطاعت أن تخلط جميع أوراقها، وتجعلها تفتقد نفسها. تذرف سيلا من الدموع، تتشكل في قلب فراشها كالجنين، وتنام بانكسارها إلى وقت متأخر من الصباح. هي لم تعد تطيق لقاء الصباح، ضوء النهار الذي يتسلل إلى غرفتها عبر النافذة أشبه بالخنجر الذي يخترق روحها، ويعزّز فيها الألم. الصباح يأتيها بكل شيء يمتّ بصلة للخيبة، ومع ذلك تقوم؛ وتقاوم ذلك التعب الذي يطلع في جسدها مع الشمس.
لا مفرّ من الصباح ومواجهة الناس! تهتم بمظهرها جيّدا، تعتني بنفسها كمن هو مقبل على مقابلة توظيف، أو موعد غرامي، بينما هي مقبلة على مكتب في إدارة تكاد تكون ركنا من سوق شعبي لا شيء فيها يطاق؛ لا الناس ولا الملفات، هي لم تختر هذا العمل؛ وإنّما فرضته الدنيا عليها. تجلس على كرسي مقعده ومسنده من حجر، هكذا تصفه دائما! يلتف حولها كل الذين آمنوا أنّ سعادتها الداخلية هي سرّ ابتسامتها العميقة، وترحيبها الدافئ وحديثها الحكيم، وضحكاتها الجميلة وتفانيها في العمل وتصريفها للأمل. الكل اتّخذها متّكأ ولا أحد استطاع أن يقرأ الحزن الذي يثرثر في عينيها أو يبحر في نفسها فيعلم خباياها! تعود مساء إلى البيت منهكة تعاني من صداع حاد، يعجّ في داخلها القلق ويزيد من تدهور شهيتها التي أسهمت في انخفاض وزنها، صداع يرافقه الغثيان، يلومها الجميع على فقدان الشهية الذي لم تقاومه ولا أحد يعلم أنّها تخفي اكتئابا.
الأمر أشبه بغلاف كتاب مشجّر؛ محتواه عبارة عن قصص مأساوية، وأشبه بزربية تقليدية واجهتها جميلة؛ منظمة الألوان والأشكال تسرّ الناظرين، ووجهها الخلفي فوضى لا أحد يفهم كيف يفكّ رموزها، فوضى بحاجة إلى تنظيف كلّي وعناية! الأمر أشبه بفاكهة جميلة مكتملة النضج داخلها مريض. بل؛ الأمر إنسان يعاني من شتّى أنواع العذاب في داخله ويكتمها عمّن حوله. إنّه المكتئب الباسم!
الاكتئاب الباسم Smiling depression هو حالة الاكتئاب التي يعيشها الفرد دون أن يترك للآخرين أثرا يجعلهم يكتشفون ذلك، فيبدو لهم سعيدا. أي إنّه حزن وقلق ومعاناة نفسية يعيشها الإنسان في داخله دون أن تظهر عليه الأعراض التقليدية للاكتئاب بشكل علني، حيث يخفي مشاعره وانفعالاته السلبية ويعبّر عنها بسلوكيات إيجابية كالابتسامة والضحك والنشاط ومشاركة الآخرين، تعمل كآلية دفاع يواجه بها الواقع بإخفاء المشاعر الحقيقية كيلا يبدو ضعيفا. يتظاهر الفرد أنّه بخير وقادر على تجاوز جميع المشاكل التي قد تعترض طريقه، بينما هو في الخفاء يتألم ويحترق، وقد تظهر عليه بعض الأمراض النفسجسدية وقد تصل به المعاناة إلى التفكير في الانتحار، وقد يدخل في دوّامة الإدمان على السجائر، أو المخدرات، أو المشروبات الكحولية، أو حتى بعض الأطعمة التي يعتقد أنّها تسهم في تخفيف شدّة التعب النفسي حتى وإن أدّت إلى مضاعفات صحية.
لا تظهر أعراض الاكتئاب الباسم للأشخاص العاديين، ممّا يجعلهم يحكمون على المصاب بأنه سعيد وبخير وقد يزيد هذا من معاناته، ويحمّله مسؤوليات فوق طاقته ويزيد من شدّة الاكتئاب لديه. وتحدث حالات عديدة للانتحار يقف خلفها هذا النوع من الاكتئاب الخطير الذي يجعل الآخرين في صدمة من استجابة كهذه تعقب تراكمات جمّة يعيشها الفرد وحيدا. وتأخذ أعراض الاكتئاب الباسم وجهين كما يلي:
الوجه الخفي:
– الحزن الشديد والممتد على مدار الأيام.
– التعب والإجهاد المستمر، فضلا عن القلق والغضب والخوف.
– استمرار فقدان الشهية أو زيادتها، مع تغيرات في الوزن قد تكون عبارة عن خسارة أو زيادة.
– تغير معدل النوم الطبيعي كأن يعاني من الأرق، أو الإفراط في النوم لإشباع الفقر العاطفي. ويمكن أن يكون هذا العرض ظاهرا.
– العزلة لأوقات متكررة خاصة عند الشعور بالانهيار؛ تبرّر بأسباب غير حقيقية.
– تراجع الدافعية وفقدان الشغف بالنشاطات التي كانت سابقا مصدر متعة واسترخاء.
– فقدان المعنى والهدف من الحياة والتفكير في الانتحار والموت.
– التشاؤم واليأس وفقدان الثقة بالنفس وانخفاض تقدير الذات.
– البكاء المستمر أو عدم القدرة على البكاء.
– صعوبة في التركيز واتخاذ القرارات، والشعور بالضياع.
– فقدان الرغبة الجنسية.
الوجه الظاهر:
– يبدو الفرد الذي يعاني من الاكتئاب الباسم شخصا سعيدا وبشوشا ونشيطا ومتفائلا.
– يقوم بالعمل المكلف به على أتمّ وجه، وقد يتضاءل عطاؤه عند الضغط.
– ينصت لمشاكل الغير، وعادة ما يقدم حلولا تنمّ عن ذكائه.
– لا يتحدث عن مشاكله الشخصية، ولا يشكو للآخرين همومه وأزماته العاطفية.
– لديه روح الدعابة ويتمتع بالقدرة على إسعاد الآخرين.
– يهتمّ بمظهره.
– يحقّق انجازات في المجال المكلف به، بينما عادة لا يكون المجال الذي يحبّه.
– عاطفي وحسّاس؛ يتأثر لمعاناة الآخرين.
– يعتذر عن جل المناسبات الاجتماعية، حتى وإن كان اجتماعيا.
– يبدو غامضا في معظم الأحيان، وينسحب بهدوء.
أسباب الاكتئاب الباسم هي نفسها أسباب الاكتئاب بصفة عامة، إلّا أنّنا نتساءل عن السبب الذي يدفع بالفرد إلى إخفاء اكتئابه عن الآخرين، والذي يتمثل في الخوف أو الخجل من أن يبدو ضعيفا أمام الآخر الذي يعتبره مصدر قوة وإلهام ويستند عليه، وكذلك الخوف من استفسار الآخرين عن سبب معاناته خاصة إذا كان السبب سرّا يحتفظ به لنفسه فقط، فهو غالبا ما يعتبر الآخر غير قادر على فهمه وإيجاد حلّ له، فالتعبير عن معاناته لشخص كهذا يشكل تهديدا مضاعفا لراحته النفسية، لهذا يفضّل أن يتلذّذ بأحزانه ويحتفظ بها لنفسه وقد لا يفهم أن حالته هي اكتئاب. وفيما يلي أهمّ الأسباب التي تقف خلف الاكتئاب:
– الأزمات العاطفية الناتجة عن الفقد والفشل في العلاقات الشخصية، أو الجانب الدراسي والمهني.
– فقدان السند الاجتماعي والثقة في الغير.
– الأزمات المالية التي تؤدي إلى الشعور بالخوف وانعدام الأمن النفسي.
– تحمّل المسؤوليات.
– رفع سقف التوقعات التي تقابلها الخيبة.
– الشعور بالفراغ.
– الامتلاء بمشاكل الآخرين وأزماتهم، وكبت الانفعالات السلبية دون محاولة التنفيس، فتتشكل في إنهاك وضغط مزمن.
– الخجل من الشكوى للآخرين خشية الإثقال عليهم.
– الإصابة بمرض خطير أو مزمن.
– الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي، ومقارنة النفس بالآخرين ومراقبتهم.
يعالج الاكتئاب الباسم حسب شدته بالطريقة نفسها التي تعالج بها الاضطرابات الاكتئابية الأخرى، وذلك بالقضاء على مسبباته، ومن خلال العلاج الطبي الذي يكون في شكل مجموعة من الأدوية كمضادات الاكتئاب، والعلاج النفسي خاصة العلاج المعرفي السلوكي. ويظهر الكثير من المرضى تحسّنا من خلال وجود السند الاجتماعي المدرك؛ خاصة الزوج الذي يسهم بصورة فعالة في تحسين مزاج المريض، ومساعدته على حل مشكلاته النفسية. كما يؤدي تغيير نمط العيش دورا في تحسين نفسيته؛ باختبار أساليب جديدة تعمل على تخفيف حدة التوتر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.