شعار قسم مدونات

الأمومة.. فوضى من العادات والتدخلات تفسد حلاوة هذا الشعور

blogs أمومة، طفلة

في مجتمعاتنا عندما تقرر المرأة الإنجاب تنهال عليها مجموعة ضخمة من النصائح كلها تتمحور في إطار تمتعي بوقتك قبل أن تصبحي أم وتندمين، سافري الآن قبل مجيء رضيعك لأنه سيحرمك من السفر، صففي شعرك حتى تشبعين سيأتي عليك وقت لن تجدي حتى الفرصة لتمرير المشط عليه، تأنقي والبسي ما تشتهين قبل أن يترهل جسدك إلخ.

وعندما تصبح أم، فئة من الذين تعرفهم سيتحولون فجأة إلى علماء، أطباء ومرشدين، يفهمون في الصعب قبل السهل، يا إلهي من أين يأتون بتلك الكمية من القصص والخرافات كلها تحت شعار "إنها عاداتنا وأنت أم جديدة لا تفهمين شيئا" ليفسدوا عليها أجمل شعور أهداها الله، ويزرعون في نفسها التوتر، ويفقدونها ثقتها في نفسها، كيف لهذه الأم التي مرت بشهور طويلة من الحمل والأرق، وعاشت ألم الولادة الذي جعلها تحس أنها بين الحياة والموت، أن تتحملهم مجددا وتصغي لهم بوجه مبتسم، هي الآن مجبرة على الاستماع لهم وتصديقهم لأنها لا تزال أم طرية نفسيتها هشة، لا أحد سيقدر ظرفها وحاجتها لمساحة من الخصوصية في عالمها الجديد، ينتظرون منها تطبيق تلك التقاليد التي لا الدين ولا العلم يسمع عنها خبرا.

 

ستبقى تحت المراقبة المستمرة، يطلبون منها أن تفعل أشياء لا تمت لعصرها بصلة، ينصحونها بأن لا تخرج رضيعها ليلا لأن ذلك الوقت مشؤوم، يطلبون منها ألا تنشر ثيابه بعد غسلها في الشمس بل نشرها في مكان مظلم حتى ينام جيدا في الليل، ينصحونها بدفن نفسها في البيت حتى يكبر، يحللون صحته من شكل رأسه، عندما يصاب بنزلة برد أو كثرة بكاءه أو اضطراب نومه، ينصحونها بالذهاب لامرأة تسمى عندنا هنا في المغرب ب "الفراكة" تدلك صدرهم بطريقة وحشية بغرض شفاءهم من الزكام، وحزم رأسهم حتى لا يبكون ليلا، حتى أنها تعطيهم شيء يشربونه تقول أنه زيت تمت قراءة القرآن عليه ويتوفر على أعشاب مفيدة، تخيلوا معي رضيع في شهوره الأولى يتعرض لكل هذا العذاب والظلم والوحشية، لأن حماة الأم أو جارتها نصحتها بهذا الحل السحري لرضيعها وطبقته بدون أي تفكير، لا تعلم أن عددا من الرضع أصيبوا بالتسمم بسبب هذه المرأة ومنهم ماتوا خنقا، للأسف فقد فعلتها العادات مجددا.

لا شك أن أحسن هدية يمكن أن تقدم للأم الجديدة هي إعطائها حريتها والابتعاد عنها لتخوض تجربتها في الأمومة كما تريد هي وكما يمليه عليها ضميرها

أنا بحكم موقعي كأم منخرطة في عدد لا بأس به من المجموعات النسائية الموجودة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" بغرض معرفة كل الخبايا المتعلقة بعالم الأمومة والطفل، للاستفادة من تجارب أمهات من نفس جيلي، لكنني كل يوم أصدم من منشورات متعلقة بهذا الصدد، أمهات يحكون تجاربهم وأشياء سمعوها من الناس وندموا على تطبيقها بدون تفكير ف العواقب.

علميا يقال أن المرأة بعد الولادة تدخل في فترة عصيبة تسمى اكتئاب ما بعد الولادة، تختلط عليها مشاعر الخوف والتوتر والمسؤولية، وتتذكر الألم الذي مرت به، ويسيطر عليها إحساس تعلقها برضيعها مما يجعلها تتخيل أنها ستفقده يوما ما، فتدخل في حالة من البكاء والعصبية، تكون في أصعب فترة في حياتها هي غير قادرة حتى على تحمل نفسها، فتخيلوا معي كمية الفوضى التي تخلق بداخلها عندما تفتح فجأة كل الأفواه المحاطة بها، إنهم يزرعون بداخلها السلبية بدل الشعور الإيجابي نحو الأمومة، في حين هم يظنوا أنهم يساعدونها.

إضافة أن الأم تتعرض للكثير من الملاحظات عندما تكون في مكان عمومي، فذات يوم خرجت انا وابنتي في عمرها سنة وشهرين للتجول قليلا وأخدتها لمساحة مخصصة للعب، قضينا ساعات طويلة داخل ذلك العالم الجميل المفعوم بالبراءة والضحكات والصراخ، انتهينا من اللعب بعد أن لاحظت على ابنتي التعب وأنها اكتفت بهذا القدر، خرجنا متوجهين إلى البيت بعد أن ركبنا سيارة الأجرة وبدأت ابنتي بالتذمر والبكاء، شيء عادي انها تشعر بالتعب والجوع والحاجة للنوم، نطق سائق التاكسي قائلا كم عمرها؟ أجبته سنة وشهرين، قال لي "طفلة بهذا العمر مكانها هو البيت يجب ألا تخرج منه، وإن كانت حاجتها في اللعب فلتعب في البيت حتى تكبر".

صراحة الكلام الذي سمعته منه كسائق يبدو شابا لكن أفكاره بالية ومتأخرة، لم يصدمني فأنا امتلكت تلك الحصانة والقوة التي تجعلني أكتفي بالصمت تجاه هذا النوع من التخريف، لقد سمعت أشياء غريبة وتقاليد مخيفة عندما أصبحت أم، حتى قررت أن أغلق اذناي عن سماعها وفتحت قلبي لطفلتي، وفتحت القفص للطفلة الموجودة بداخلي حتى أعيش كل لحظة من الأمومة بحب وشغف للتعلم، هو لا يعلم أنني سافرت بابنتي وفي عمرها ست عشرة يوما فقط، ذهبت معي لكل الأماكن والمدن التي زرتها، وأننني تجولت برفقتها في مدينة كلها ثلوج، ولم أخف من نظرة الناس الغريبة، فكانت تلك الأيام أجمل وأجود وقت أعيشه مع صغيرتي، فكل شهر من حياتها معي لن يتكرر، فالحياة ناداتنا ونحن لبينا بقلب مفتوح.

سنتحرر ونتقدم يوما ما عندما نتخلى عن ممارسة التقاليد والتشبث بها ونحن مجبرون على ذلك، لنعش حياتنا ونترك الناس تتصرف في تفاصيل حياتها بدون تدخلات
سنتحرر ونتقدم يوما ما عندما نتخلى عن ممارسة التقاليد والتشبث بها ونحن مجبرون على ذلك، لنعش حياتنا ونترك الناس تتصرف في تفاصيل حياتها بدون تدخلات
 

لا شك أن أحسن هدية يمكن أن تقدم للأم الجديدة هي إعطائها حريتها والابتعاد عنها لتخوض تجربتها في الأمومة كما تريد هي وكما يمليه عليها ضميرها، فالأمومة مزروعة داخل كل أنثى بالفطرة لا حاجة لها بمرشد أو منصح يعلمها أبجديات هذا الإحساس والشعور الفطري.

من حق كل أم أن تعيش خصوصيتها مع صغيرها بسلام، صحيح أن تجربة الأمومة صعبة جدا، بل من أكثر الأشياء صعوبة في هذه الحياة، درس معقد تليه امتحانات مفاجئة، لكنها امتحانات تمنح الثقة والقوة، ربما ستحتاج الأم في البداية إلى المساعدة وشيء من التخفيف لترتاح قليلا، لكنها أبدا لن تحتاج لأي عادة موروثة من الأجداد هي غير مقتنعة بها.

على كل أم أن تعلم انها رائعة، وأنها فقط تحتاج للمسافة اللازمة التي تمكنها من ممارسة امومتها بحب واجتهاد، عليها أن تتعلم قول كلمة "لا أنا لن أفعل"، فمصلحتها ومصلحة طفلها تأتى ف المرتبة الأولى، وإن قالت "لا" وإن اعترضت على عرف أو نصيحة ضارة فلن ينقص منها شيء ولن تعاقب بالسجن مثلا، بل ستفوز بحريتها وشعورها الرائع بأنها تتعلم يوما بعد يوم، وفق ما يمليه الدين والعلم.

ربما تلك الخرافات والقصص التي ستسمعها من جاراتها الأمهات، صديقاتها والأقارب، والغرباء الذين سيتقاسمون معها كرسي الانتظار عند الطبيب أو في الصيدلية، أو أثناء تجولها مع صغيرها، ستربكها قليلا وستجعل نومها متقطع، لكن عليها دائما الرجوع إلى الدين والعلم، هما المرجع والثقة. سنتحرر ونتقدم يوما ما عندما نتخلى عن ممارسة التقاليد والتشبث بها ونحن مجبرون على ذلك، لنعش حياتنا ونترك الناس تتصرف في تفاصيل حياتها بدون تدخلات، فهذا العالم فيه ما يكفي من الحزن والمشاكل، لنساعد بعضنا بالنصيحة التي لها مرجع علمي وديني، وإن لم لم تكن كذلك فصمتنا أخير من كلامنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.