شعار قسم مدونات

هل يحتاج عبدول لشكسبير حتى يعيش؟

blogs المجتمع

خلال أول أيام عيد الميلاد تتوقف الخدمات العامة بشكل عام وخدمة المواصلات بشكل خاص وتشل الحركة في عاصمة الضباب لندن حيث لا يمكنك التحرك في المدينة إلا في سيارتك الشخصية أو عبر تطبيقات التوصيل الجماعي أو الفردي المختلفة، وهذا طبيعي ولا تختلف فيه لندن عن باقي المدن الأوروبية حيث تتحول شوارع المدن العامرة إلى شوارع أشباح تختفي فيها الحياة إلا من أصوات موسيقى عيد الميلاد والأضواء على المباني.

عبر إحدى التطبيقات توصّلت لسائقين اثنين من أصول أجنبية في مناسبتين مختلفتين، والسبب هنا أن الإنجليز في هذه الأوقات من العام يفضلون البقاء مع أسرهم في المنزل، كانت بدايتي مع عبدول حيث حملني في سيارته قاطعين من أطراف وسط لندن إلى غربها متحدثاً لأكثر من ربع ساعة بلا توقف عن أفغانستان (موطنه الأصلي) وفلسطين ومباراة كرة القدم بين المنتخبين وتفاصيل حياته في غرب لندن حيث عاش مع أسرته ما يقارب العشرين عاماً.

 

وهنا وجب علي أن أعترف أنني لا أخوض نقاشاً مع السائقين قط، أتركهم يثرثرون على أريحيتهم وكلما ألزمني أن أشترك في نقاشه المتّقد، كنت كخازن النار الذي يضع فيها من الحطب ما يكفي أن يبقيها مشتعلة فحسب، وبعيداً عن تفاصيل حديثه الشخصي منها والعام، كانت ملاحظتي أنه بعد كل هذه السنوات هنا في لندن (على حد زعمه) فإن إنجليزيته محدودة بحيث أنه لم يستطع أن يبني جملة واحدة كاملة بالإنجليزية، بل أدخلني في أحجية قديمة كنا نمارسها في صفوف اللغة الإنجليزية في الابتدائية بإعادة ترتيب الجمل بشكل يمنحها معنى، وفي نهاية الرحلة كنت قد استرجعت مهارات هذه الأحجية من قبو الذكريات في عقلي محاولا فك طلاسم ما يقول لأمارس عادتي القديمة كخازن النار.

إنني غير قادر على تفهم أن تعيش في مجتمع لأكثر من عشرين عام ولا تستطيع التواصل معه، على الرغم من كثرة الأعذار التي يسوقها البعض دفاعاً عن عبدول وأمثاله من عنصرية وعزلة ورفض لتوظيف الأجنبي

أوصلني وودعته وجلست مع صديقي في أجواء عربية لم أعتدها منذ سنين وحين انتهينا من احتساء الشاي استقليت -مرة أخرى عبر نفس التطبيق- سيارة لتوصلني إلى جنوب لندن حيث أقيم مع أسرة من الأصدقاء من زمبابوي وهنا كانت الأمور مختلفة قليلا، فالسائق هذه المرة خضر، رجل أربعيني من الصومال يعيش هنا منذ ١٧ عاما بعد (خطيئة) الزواج على حد قوله، في بداية الرحلة تاهت مني القدرة على فهم إنجليزيته تهلّل وجهي عندما عرفت أنه ولد في الدنمارك وتركها للانتقال مع زوجته الإنجليزية إلى لندن، حيث شدد علي أكثر من مرة أنها كانت خطيئة وكلما سألته أيهما أجاب بانفعال: ”كلاهما، كلاهما خطيئة“. ويقصد هنا خطيئة الزواج وخطيئة الرحيل.

 

تجاذبنا أطراف الحديث بالإسكندنافية وهنا توسّع خضر في بحر ذكرياته في الدنمارك وكانت رحلة من النستولوجية والحنين إلى عاصمة الدنمارك كوبنهاغن وبالتحديد إحدى ضواحيها التي اكتظت باللاجئين في تلك الفترة ولازال الناس يقصدونها باحثين عمّا لذ وطاب من الطعام الذي يعدّه الأتراك، والأفغان، والأكراد، والفرس، والعرب.

وفي نهاية الرحلة تركته بالسيارة وأنا في حالة من الذهول قادتني للتفكر جليّاً في عدة أمور كانت كلها ذات منبع واحد: لماذا بعد هذا العمر يعجز رجلان راشدان من أهل هذه المدينة على الخطو في اتجاه الاندماج مع المجتمع الإنكليزي والذي يبدأ حصراً باللغة؟ فمن لا يستطيع التحدث بلغة بلد فمن المستحيل أن يندمج فيها حتى بعد عقدين من الزمان كحال صديقنا عبدول.

 

وهنا يعلو صراخ فئتين في المجتمع البريطاني: فئة لا تجيد اللغة وتطالب بالاندماج في سوق العمل فقط وفئة أخرى ترفض أن يتجنس الأجنبي حتى يأكل الخنزير ويشرب الخمر.. فئتان متطرفتان في مطالبهما ولا يمكن لوم فئة على تطرف الأخرى ولكنني غير قادر على تفهم أن تعيش في مجتمع لأكثر من عشرين عام ولا تستطيع التواصل معه، وعلى كثرة الأعذار التي يسوقها البعض دفاعاً عن عبدول وأمثاله من عنصرية وعزلة ورفض لتوظيف الأجنبي، لكنني لا أستطيع تفهم هذا الفعل على الإطلاق، فماذا لو كان الوضع منعكسا؟ هل كنا سنقبل أن يهاجر الإنجليز إلى مواطننا ويُمنحون جوازات سفرنا وهم لا يجيدون لغة الضاد؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان