"يَا رَسُولَ الله، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ".. سؤال أثار انتباهي تكراره في عدد من الأحاديث النبوية.. طرحه عدد من الصحابة، وعدد من الأعراب عند دخولهم الإسلام.. وهو إشارة إلى بعدهم عن التعقيدات الفلسفية والكلامية، وحرصهم على الإسلام العملي، وإدراكهم بالفطرة أن السلوك العملي هو المؤدي للنجاح في امتحان الدنيا.
انشغلت بهذا الموضوع لفترة، فأحصيت كل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتكلم عن الجنة والنار، ليس من خلال توصيف ما فيهما من نعم أو من عذاب، وإنما في إطار محدد: ما هي الأعمال المؤدية إلى الجنة، و الأعمال المؤدية إلى النار؟ في القرآن، أحصيت قرابة 500 موضعا.. وفي الأحاديث الصحيحة، أحصيت ما يقارب 6800 حديثا يذكر الجنة، و5000 حديثا يذكر النار.. وقمت بغربلة غالبية هذه الأحاديث، ولكن توقّفت ولم أستكمل تدقيق الأعداد ومقارنة المشترك والمكرر بشكل جيد، لأن الأمر استهلك الكثير من الوقت والجهد، ويتطلب عملا أكاديميا ربما يستغرق بضع سنوات:
1- إذا جمعنا هذه الأحاديث وأخذنا المشترك بعين الاعتبار، فربما يكون لدينا حوالي 9000 حديث يتحدث عن الجنة والنار.
2- وإذا حذفنا المكرر (وهو كثير وضخم)، فأتوقع أن يكون لدينا حوالي 200 أو 300 حديث فقط يتحدث عن الأعمال التي تؤدي إلى الجنة أو إلى النار.
وخلاصة ما وجدته هو التالي:
النموذج الإنساني الذي يدعو إليه الإسلام ويبشّره بالجنة، هو نموذج المواطن المنفتح عقلا وروحا على المعرفة والتعلم، وحبّ النمو الذاتي، وحبّ الخير للآخرين، والتعاون، والتضحية |
1- بوضوح لا ريب فيه: الإسلامُ دين رحمة وتفاؤل وأمل وتحفيز وتشجيع.. وليس دين عذاب وتشاؤم وتهديد ووعيد.
2- الأعمال المؤدية إلى الجنة لا تعدّ ولا تحصى.. وكلها تقريبا مرتبطة بالفعل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعلمي.. بمعنى أنك: إذا أردت الجنّة، فكن مواطنا صالحا في إطار المجتمع الذي تنتمي إليه، وفي الدوائر الاجتماعية التي تنتمي (عائلة، قرابة، جوار، صداقات، فريق عمل، جماعة، مدينة، دولة…) والوظيفة أو التخصص الذي اخترته لنفسك. أما الأعمال المؤدية للنار، فهي قليلة، وأغلبُ الآيات والأحاديث المتعلقة بها تنزع نحو الوعيد، ولا تقطع بدخول النار، وإنما تخوّف الإنسان وتحذره، وتفتح له في نفس الوقت باب التوبة والأمل.
3- النموذج الإنساني الذي يدعو إليه الإسلام ويبشّره بالجنة، هو نموذج المواطن المنفتح عقلا وروحا على المعرفة والتعلم، وحبّ النمو الذاتي، وحبّ الخير للآخرين، والتعاون، والتضحية، والمشاركة، والصدق، والأمانة، والعدل، وعمران الأرض، وحفظ العلاقات الاجتماعية، والسعي لأداء المهام بجودة وإتقان، والحفاظ على البيئة. وأيُّما شخص تميز في بعض ذلك (البعض يكفي)، يكون قد نجح في اختبار الدنيا، وله الجنة.
4- الله يقدّر اختلافَ الحظوظ والطاقات والقدرات والمهارات والفرص بين الناس، ويعطي لكل واحد بقدر ما توفّر له منها، أو بقدر ما حُرِم منها أيضا.. ومن حُرِم بعضَ القدرات أو المقوّمات الأساسية للنجاح، يتم تعويضه مباشرة بالجنة.. فمن مات له ولد، أو مات في حادث، أو مات غرقا، أو مرض مرضا مستعصيا، أو كان معاقا، أو مات مدافعا عن ماله وعرضه، أو تعرّض للعذاب الدنيوي، نتيجة قسوة الظروف الحياتية، أو تعرّض للعذاب نتيجة الاستبداد والظلم السياسي، أو كان فقيرا معدما، أو ضعيفا مستضعفا، إلخ.. كل هذه النماذج التي نراها بمقاييسنا الدنيوية في أدنى الدرجات، يعدها الله بالجنة. بمعنى آخر: أيّ شخص، مهما كان ضعيفا، يمكنه المنافسة على الجنة مع من يملكون قدرات أكبر من قدراته.. ويكفيه أن يستعمل ما هو متاح له.
5- النموذج الإنساني الذي يحذّر الإسلام منه، ويتوعده بالنار، هو نموذج المتكبر والعنيد والمتجبّر والمغرور بقوته وماله وسلطته، المنفتح على كل أنواع الضرر الكبير بالمجتمع والبيئة.. نموذج الظالم والطاغية واللص والكاذب والمخادع، خائن الأمانة، والمؤذي للغير، والبخيل بالمال عن الآخرين، والمبذّر المفرّط في المال والمقدّرات باستهتار، وقاطع الطريق، وقاطع الرحم، والمذل المهين للغير، وعاق الوالدين… وهي كلها صفات وأعمال تؤدي إلى الخلل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
6- التأمل في القائمة يؤدي إلى حقيقة لا شبهة فيها، وهي أن الجهاد الحقيقي للفرد إنما يكمن في العمل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي:
– فإخلاص وإتقان العمل البلدي يؤدي إلى الجنة
– إخلاص وإتقان العمل الحكومي والبرلماني وقيادة الناس يؤدي إلى الجنة
– إخلاص وإتقان الممارسة القضائية يؤدي إلى الجنة
– أي وظيفة مهنية أو اجتماعية، بمقابل مادي أو بتطوع، تخلص فيها وتتقن فيها أداء مهامك، وتحافظ من خلالها على الصالح العام، تؤدي إلى الجنة: كن طبيبا، مهندسا، أستاذا، موظفا، محاسبا، مزارعا، تاجرا، محاميا، سائق تاكسي، عامل نظافة، عون بلدي، إلخ.. كن ما شئت، ولكن مخلصا ومتقنا.. ولك الجنة.
– الدفاع عن حقوق المظلومين والضعفاء والفقراء والمحرومين يؤدي إلى الجنة
– إماطة الأذى (أي نوع من أنواع الأذى) عن طريق الناس وعن حياتهم، يؤدي إلى الجنة
– بر الوالدين وكبار السن (الجيل السابق)، وحسن رعاية الأبناء (الجيل اللاحق)، وحسن رعاية الصداقة والأخوة والزمالة والمواطنة (الجيل الراهن) يؤدي إلى الجنة
– الحرص على تعهد العلاقات الأسرية والعلاقات الإنسانية، ونشر ثقافة السلام والحب والتنفيس عن الآخرين، يؤدي إلى الجنة
– مساعدة الآخرين، حين تكون المساعدة نوعية وفي وقتها الدقيق، تؤدي إلى الجنة.. إلخ. وكلما ذهبت في الاتجاه المعاكس، كلما اقتربت من النار.
أشير أخيرا إلى أنني لم أستكمل تأمل القائمة، واستخلاص النتائج، وإيراد نماذج من الأحاديث والآيات. ولكنّ ما أوردته هنا يكفي لوضع تصور عام لما يعِد به الإسلام في نصوصه المؤسّسة، مقارنةً بالخطابات الدينية المنفّرة والمعسّرة على الناس. فهذا كلام الله وكلام نبيه.. ولا مجال بعد ذلك للانبهار بخطابات دينية تناقض هذا الجوهر، مثل خطابات التشدد والعنف ونماذج داعش والقاعدة، التي لا علاقة لها بالإسلام، لا من قريب ولا من بعيد، وهي نماذج تؤدي إلى النار. ومثل خطابات الانزواء عن المجتمع، أو خطابات التلهّي بالجزئيات الصغيرة، والتي تؤدي بأتباعها إلى الكسل والضعف، بعيدا عن عمق الحياة وامتحانها الحقيقي المراد للإنسان في الدنيا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.