يقال بأن الثورة هدمٌ والديمقراطية بناءٌ.. فهل يا ترى رمّمنا وبنينا بعد الربيع العربي أم أمسى الربيعُ خريفًا وبقيت دار لقمان على حالها؟ مرّت الآن ثمان سنوات ودخلنا في التاسعة منذ انطلاق شرارة الربيع العربي أول مرة بتونس، في السابع عشر من ديسمبر أواخر سنة 2010، ومنها إلى باقي الدول العربية: مصر في 25 يناير 2011، واليمن في السابع والعشرين من ذات الشهر، ثم ليبيا في السابع عشر من فبراير، وبعدها المغرب في العشرين من الشهر نفسه، وأخيرا سوريا في الخامس عشر من مارس. أَرَّخت هذه المحطات للحظة مفصلية في تاريخ العرب الحديث، لحظة لم تُستغل بالشكل الأنسب للأسف! ويتضح يوما بعد آخر أن الأمر ينتقل من سيئ إلى أسوأ ولا ديمقراطية تلوح في الأفق، على الأقلّ لحد الساعة.
صحيح أن عمر دُول ما بعد الربيع العربي يظل قصيرا إذا ما أسقطنا عليها أدبيات الانتقال الديمقراطي Democratic Transition باعتباره أهم مباحث علم السياسية ومحط اهتمامها منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي. لكن، إذا لم نستطع الحسم نهائيا فيما حدث (أي هل حدث انتقال ديمقراطي حقيقي بعد الربيع العربي) فعلى الأقلّ لنحلّل انعكاسات ما حدث وكيف تفاعلت معه الشعوب؟ ولهذا الغرض سيقتصر حديثنا على تجربة تونس عرّابة الربيع العربي على أمل استحضار باقي التجارب في تدويناتٍ لاحقة.
مع مطلع سنة 2011، نتذكر جميعا وقتها الزخم الاعلامي الكبير لوكالات الأنباء ومحطّات الأخبار العربية والعالمية، وعلى رأسها الجزيرة، والحماس الذي كانت تصلنا به الأخبار حينها عن الثورة التونسية – باكورة الربيع العربي – حيث تابعنا جميعا بن علي مخاطبا التونسيين بعبارته الشهيرة "فهمتكوا" في محاولة يائسة لتدارك ما فات. ولكن، هيهات هيهات.. لا يُصلح العَطّار ما أفسده الدّهر، ولم تصلح "فهمتكوا" سنوات من القمع في دولة بن علي البوليسية، والنتيجة؟ بعدها بأيام فرّ بن علي إلى السعودية تاركًا الجملَ بما حملَ.. ولسان حال الجموع يردّد في الساحات بسخرية " شَدْ شَدْ بن علي هربْ".
لا توجد وصفة سحرية مجربة وناجحة تحقق انتقالا ديمقراطيا في الحين! بل هو مسار طويل من البناء تراعى فيه ظروف وخصوصية كل دولة ومجتمعها وبشكل تدريجي |
لا يمكن أن نجادل اليوم بكون ثورة الياسمين بمحاسنها ومساوئها كانت -الأنجح- مقارنة بنظيراتها في باقي الدول العربية، لكن هذا يبقى استثناء للأسف! والاستثناء لا يقاس عليه. وها هي تونس اليوم ما تزال في مخاض عسير سائرة على درب الديمقراطية، وتُكابد بعناء مُجابِهة التحديات واحدًا تلو الآخر: ابتداء من الوضع الإقليمي المضطرب، والحديث عن محاولة انقلاب فاشلة انتهت قبل أن تبدأ، ثم مرورا بالأزمات الاقتصادية المتتالية، والضغوط الخارجية بأموال خليجية، وصولا عند القلاقل المُثارة قبل كل انتخابات.. وهَلُمَّ جَرًّا. ولو جازت عَنونتُ ما عاشته وتعيشه تونس لن نجد أفضل من "ضريبة التغيير"؛ فما نيل المطالب بالتمني! ومن يَتهيّب صعود الجبال يعش أبدَ الدّهر بين الحفر كما نَظَم شاعر الخضراء أبو القاسم الشابي. والرهان الحقيقي اليوم هو المحافظة على مكتسبات الثورة وتعزيزها وفاءً لدماء شهدائها.
مقارنة مع باقي دول الربيع العربي، فعلى العموم تظل حصيلة تونس إيجابية رغم التراجع الاقتصادي إلا أنها قطعت أشواطا كبيرة على المستوى السياسي بفضل إشراكها لجميع الفعاليات بإجراء حوار مفتوح مع الجميع دون استثناء، مسنودة بمجتمع مدني قويّ، كما لا ننسى الدور الكبير الذي لعبته مؤسسات مثل " الاتحاد العام التونسي للشغل" التي كانت راعيا رسميا للحوار الوطني لمرحلة ما بعد بنعلي، وتُوِّجت مجهوداتها بجائزة نوبل للسلام. دون إغفال الميزة الأهم على الاطلاق بتونس والمتمثلة في بقاء الجيش خارج اللعبة السياسية، ممارسًا بذلك دوره الطبيعيّ المنوط به، وهذا الشرط للأسف انعدم في مصر مثلا وشكل عنصرا مضادا لثورة 25 يناير.
في نفس سياق حديثنا عن الانتقال الديمقراطي بتونس نستحضر أهم معايير وأدبيات الانتقال الديمقراطي كما هي متعارف عليها والتي ورد بعضها بكتاب: "Problems of democratic transition and consolidation" وغيره من الدراسات التي تُعنى بالانتقال الديمقراطي، وذلك قصد إسقاط هذه المعايير على التجربة التونسية واستخلاص نتائجها، ومن أبرز هذه المعايير نجد: التعددية السياسية (وصول الاسلاميين للحكم مثلا) والتداول السلمي للسلطة، وكفالة الحقوق السياسية والحريات المدنية لجميع المواطنين على قدم المساواة( العدالة الانتقالية)، ووضع دستور جديد ومؤسسات دستورية بالتوافق بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين وباقي القوى الحية مع تحديد معالم النظام السياسي الجديد، ثم تشكيل حكومة جديدة منبثقة عن انتخابات عامة حرة ونزيهة، مع قدرتها على الممارسة الفعلية للسلطة والحكم، وسيادة القانون واحترام الفصل بين السلط التنفيذية والتشريعية والقضائية مع عدم وجود قوى أخرى تنازع هذه السلطات في اختصاصاتها وغير ذلك من المعايير.
والتي إن أسقطناها على التجربة التونسية سنجد أن عددا محترما منها تحقق على أرض الواقع، لكن لم نصل بعد إلى نهاية الطريق، ولا بأس بذلك ما دمنا في مراحل البناء الديمقراطي الأولى. فالديمقراطية ليست قهوة سريعة الذوبان بل هي دواء عسير الهضم لا بد منه لاكتساب المناعة ضد الفساد والاستبداد، وهذا تمرين ديمقراطي إجباري لتونس وغيرها من البلدان العربية إن هي أرادت النجاح في امتحانات الديمقراطية.
كما أسلفنا الذكر، لا توجد وصفة سحرية مجربة وناجحة تحقق انتقالا ديمقراطيا في الحين! بل هو مسار طويل من البناء تراعى فيه ظروف وخصوصية كل دولة ومجتمعها وبشكل تدريجي، دون تدخل من القوى الخارجية؛ فالديمقراطية تُدعم وتُساند ولا تُفرض من الخارج، كما أنها لا تُصدّر ولا تُستورد، بل تتطور وتنمو في بيئة داخلية تراعي الخصوصيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بتخطيط محكم ومدروس حتى لا نسقط في فخ الديمقراطية الزائفة أو الهجينة.
ختاما، يمكن القول بأن الديمقراطية عملية مستمرة غير متوقفة، ويمكن أن نشبهها بمسلسل دون حلقة أخيرة؛ فكلما وصل شعب ما إلى درجة معينة من الديمقراطية والشفافية في الحكم إلا وطمع في مكانة أفضل من سابقتها وهكذا دواليك.. لأنه في النهاية لا وجود لديمقراطية مثالية أو نموذجية، كما لا يجب أن نتخذ هذه الأخيرة غاية في حد ذاتها بل وسيلة لتحقيق مطالب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي صدحت بها حناجر الشباب في الربيع العربي. أو كما قال تشرشل في وصف مكانة الديمقراطية بين الأنظمة السياسية الأخرى بأنها: أفضل الأنظمة السيئة أو أقلها سوء. وهذا حديث آخر يمكن الخوض فيه – لاحقا- بعد تحقيق فعليّ للانتقال الديمقراطي في كافة البلدان العربية، أما الآن.. فعاش من عرف قدر نفسه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.