شعار قسم مدونات

"أفونسي لاغيار".. هكذا تسيطر فرنسا على العرب ثقافيا

الوصاية الفرنسية للثقافة العربية

وصف محمّد أركون حال أولئك المهوسين بالفّكر والمعرفة؛ أنّهم أميل إلى الانعزال اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، بل وراح البعض منهم يفضل الصّمت على أن يسمع صوت عالمه الذهني، العالم الذي يقول عنه جيجك من أنّ كونه فارغ، ليبيح لنفسه ما لا يصلح أن يكون أمرا حسنا يقوم به غير روّاد الطبقة الأولى من الثقافة الحوارية، أعني أن نجلس باعتدال على كرسي الطاعة الحداثي ووضع الرجل اليمنى على اليسرى مع تشكيل متخيّل غربي عن الإسلام، ألوانه ممزوجة في لوحات مختلفة من قبيل منظمات الإغاثة، التي تحوّل بعضها إبّان حرب أفغانستان إلى ذراع استخباراتي، استطاع أن يخلق منها طوابير جديدة، وأن يضع للآخر الذي هو بمثابة تجريب زماني، احتمالات جذرية تقمع عن طريق تنكرها للإرث التاريخي، كل ما له صلة بمفهوم الفكرة الإسلامية/المعتقد الصحيح.

كان الشّرق قديما _أما اليوم فهو تعبير للفوضى والخراب والرّعب والخوف العالمي، كما يروجها وكلاء الإعلام الغربي_ مركزا يحجّ له العديد ممن لم يجد جوابا لسؤال المعرفة، سؤال الحياة الذي شغل الجيل الجديد من الحجيج خارج العالم المسيحي؛ لقد استطاعت تلك الطبقة المشؤومة والملعونة بنظر الكنيسة إلى بعث روح نهضة أوروبية، قام العقل فيها يقدّم جدليات تعيد اتجاه الفهم السّائد في كليّات الأشياء وأساطير الزّمان الأوّل وشرعية المؤسسة الدينية والضرورات التاريخية، وإلى يومنا هذا ظل الاعتراض ضد ما تقدمه نظم التقديس الأسطوري، يسلب حياة الكثيرين من نقاد الخطابات الطوربينية لترسبات الفكر الرجعي، الفهم الذي يستأله الحوادث بمعزل عن عوارضها فيخرجها عن طورها أشياء لا يمكنها الانتقال عبر أزمنة تاريخية متعددة، إلا باندثار تكوينها المعرفي أو تجدده؛ وفي بقعة تتداعى بها القيم نتيجة أساليب قسرية، يكون من السّهل بمكان اغتيال الصحفيين ووأد المثقفين.
  
اليوم يقدّم العديد من الباحثين بمجال المعرفة، أطروحات ودراسات بآليات متعددة للخروج من قوقعة التخلّف الذي تعيشه المجتمعات العربية، يصل البعض منهم إلى السّخط لمجرد أنّه مصاب بنزعة هيغيلية أو تبعية غزالية، أمّا البعض الآخر فيقف عند عتبة التفكر زمنا طويلا في كل شيء وبكل شيء، فلا يحدّد له موقف حتى من القضايا الإنسانية العامة، التي من المفروض أن يتضامن الجميع معها، كالقضية الفلسطينية، وتحريم الإبادة الجماعية وتجريم قتل الصحفيين، فنقده للعالم لا يمهّد لأيّ شيء، مجرد التفكير يمنح العالم أفقا وفق ما يسمّى بالطقوس البرجوازية للمثقف القطري/الثقافة المركزية.

سيرحل الكثير من المثقفين، وسيغيب العديد من بؤساء المعرفة الاستثنائية، إلا أنّ بقاء الثقافة من كونها أداة كونية يصعب إزاحتها من لوحة الحياة مرهون بفاعلية الوعي الشعبي في نقد تراث المقهورين

إنّ الفوضى التي أصابت الخطاب السلطوي بجميع أدواته بدءا من المؤسسات التعليمية وصولا إلى الشخصيات النّافذة في اتخاذ القرار، سببه حالة الجدل المتفشّية عند الكثيرين _أنا أتكلم إذا أنا موجود_ دون مراعاة أيّ المقامات التي وجب الوثب على إيقاعها؛ في هذا السياق يدّعى أركون أنّ الأنسيّة البورجوازية الفرنسية كانت تعتبر الثقافة الغربية مكوّن عالمي، بانتهاجها ثقافة المخبرين، وبسلب مستعمراتها الإرادة في الفهم والمعرفة واعتراف أخلاقي بالثقافة المحلية، من أجل ذلك قام أركون يسأل: لماذا هم على ما هم عليه؟ ليجيبه جيجك "العظيم" بقوله: التفكير ببساطة الأشياء يجعل منّا أشخاصا عظماء؛ مجرد التّفكير بالخبز قامت ثورات عديدة ترتكز على نشاط ذهني بسيط ما يلبث أن يتحوّل إلى فلسفة تتأسس من خلالها مسائل تاريخية، ولكن؛ هل الحرية مطلب بسيط حتى يسمح لنا التفكير بها؟

 

مات أركون محتفظا بذكرياته السيئة عن الثقافة الاستشراقية التي خالف أساليبها يوم أصبح مدرّسا بجامعة السوربون الفرنسية، داعيا إلى تحرر فكري أكثر نجاعة وأدّق تحليلا للمناخات الثقافية، ونضج أنسني للمشكلات النّصية المتعلّقة بالموروث الإسلامي/النص التاريخي، وبقي فيلسوف كليشهات المتعة، يشوّه الربيع العربي ومثقفيه كالمحشورين إلى نزوة ثورية أو تظاهرة نسوية؛ سيرحل الكثير من المثقفين، وسيغيب العديد من بؤساء المعرفة الاستثنائية، إلا أنّ بقاء الثقافة من كونها أداة كونية يصعب إزاحتها من لوحة الحياة _حتى وإن قطعت أواصل مجدها لمجرد أن تتحالف السلطة بثقافة التهكم، السّخرية التي من خلالها يعدّل المزاج الانسدادي الواقع بين المعرفة والسلطة_ مرهون بفاعلية الوعي الشعبي في نقد تراث المقهورين.

خلال مراحل تاريخية صرّح المسلمون بما لم يقله العديد من الأمم التي اشتغلت على اللاهوت وتقديس الحوادث، تدربت المدارس الدينية ولزمن طويل على فهم العلوم المختلفة، التي اكتشفها المسلمون من خلال تمددهم الجغرافي، فقدّموا حلولا لمعضلة الإيمان والظواهر الكامنة وراءه؛ اتخذ أبو حنيفة من الجدل العقلي لتلك الظواهر أداة مهّدت باستمرارية مدرسة الرأي، لتتحول المناهج الربانية إلى حالة إنسانية، كي تظهر الحاجة الماسة لفهم الوجود، توسّع العقل في استنطاق العلوم ليشمل أصول الدين وأساسيات الشريعة، كي يمنح للإنسانية خطابا يليق بحالتها الوجودية.

بأرمينيا عقد مؤتمر للدول الفرنكوفونية بحضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، صرّح ماكرون بدعمه لإصلاحات الرئيس التونسي التي تمثلت بالمساواة في الميراث وحرية الميول الشخصي، دعم ماكرون للرئيس السبسي جاء بمرحلة تمر بها تونس نحو تجسيد فعلي للعمل الديمقراطي؛ لم يكن استقلال المستعمرات الفرنسية منحة كلونيالية، بل كان نتيجة تطلعات شعوبها للحرية والحياة، خرجت فرنسا بثوب الخزي الملطخ بجرائم الإبادة ومعاداة الإنسانية، غير أنّ مخبريها ظلوا يتربصون بحديقتها الخلفية؛ إنّ انتقال الاستشراق كونه يعمل على بلورة صورة شرقية مثقلة بالإثنيات/الملل، إلى مجتمعات ما بعد كلونيالية يسكنها رهاب الآخر/المجتمعات الباطنية؛ لهو من اختصاص مهندسي السجالات السطحية.

 

ما نشهده اليوم من تكوّن طبقة عالمة مهيكلة لنزعة طروادية، متخصصة بنقد كل ما له علاقة بالجوهر الوجودي للبيئة العربية/الإسلامية، هو استخدام ممنهج لعقول فرنسية أجهدها الإرث الإسلامي، يقبع الفكر الفرانكفوني وراء المعرفة الانتهازية باستخدامه العلوم الإنسانية لبسط نفوذه الإمبراطوري، يظلّ البحث عن موطأ قدم بالشمال الأفريقي من اختصاص المخبرين الفرنسين الذين يبحثون بين ثنايا القوميات/العقائد من أجل خلخلة النّظم الاجتماعية وعدم احترام الهويات؛ تحاول جمهورية الكرواسون إعادة جدولة المجتمعات التي اختبأت وراء الكونية، عن طريق القنوات القانونية لشرعنة المجتمعات الباطنية وتسييس حقوقها.

 

جاء الرّبيع العربي كي يخلق نوعا آخر من عدم الاستقرار الثقافي، وليكشف مدى زيف النّخب التي ظلت ولزمن طويل تنادي بالعلمنة والحداثة، وليعيد طرح سؤال النزعة الإنسانية للعالم الحر
جاء الرّبيع العربي كي يخلق نوعا آخر من عدم الاستقرار الثقافي، وليكشف مدى زيف النّخب التي ظلت ولزمن طويل تنادي بالعلمنة والحداثة، وليعيد طرح سؤال النزعة الإنسانية للعالم الحر
 

ما تعتمده الإدارة الفرنسية الحديثة من أجل إعادة تمركزها بدول الشمال الإفريقي، هو تفعيل العناصر الذهنية البابوية لحماية حدائقها الاقتصادية، تعي فرنسا جيدا أنّ نفوذها مرهون بمدى فاعلية نخبها الوظيفية داخل الدوائر التعليمية والثقافية، من أجل إرساء نشاطها الايديولوجي الكفيل بحفظ مراكز القوة الاقتصادية، لذلك تسعى لتقسيم الفضاء الجغرافي كتهديد يمكن أن يحصل لمجرد الدعوة إلى إنهاء الوصاية الفرنسية، يحدث أن يكون المغايرون للفطرة البشرية ودعاة المساواة ومعاداة العربية أهم المراجع التي تتشبث بها وكالات الإعلام الفرنسية، في ظل حراك عمّالي يتجدد كل سبت بجمهورية ماكرون.

 

إنّ العقلية التي تحكم ساسة قصر الإليزيه لم تتغير مع تجدد أنماط المعرفة والتقارب الاجتماعي بعد أحداث الربيع العربي، فاتهام ماكرون المحتجين ضد سياساته الاقتصادية بالعنصريين، لهو إقرار لمفهوم الديمقراطية البرجوازية "الأغلبية تصوّت إلا أنها لا تحكم إلا عن طريق المحاصصة أو حكومات التوافق_ وإذا كانت الديمقراطية هي نتاج تأملي للممارسة الأوربية العريقة، يتلاعب بمعناها وآليات تطبيقها (حكومات المحاصصة/التوافق الحكومي)، فكيف بالاعتباط الفرنسي الذي يعشعش فوق رؤوس المفكرين العرب بوصفه نفحة إنسانية.

كان بإمكان المهاجرين فكريا النجاة من السياج الدوغماتي المحيط بهم، إلا أنهم اختاروا الثقافة التنويرية مذهبا إنسانيا، يزعمون أنّ الأوربيين لم يستفيدوا من البيئة الثقافية للحضارة العربية _أي أنّ عصر التفكير الغربي لم يسبقه شرق مليء بالعلوم والمعرفة التي تخلّصت من نظام الكفالة اللاهوتي_ في هذه النقطة بالذات سيحيط بعض مثقفي التنوير عقولهم بسياج دوغماتي مدين للسلطة التي لا تعترف بهم أصلا، بل وتنكر وجودهم التاريخي كمجتمعات كان لها السّبق بإنتاج المعرفة.

 

لقد أطلقت كتابات النقد الثقافي صافرة إنذار ضد المصالح الاقتصادية الغربية، معتبرة المناطق العاتمة والمغفلة في النقد الأوروبي لموضوع السيادة جوهر الصراع، في حين يعتبر رجال الديانة السماوية أنّ تصريحات الرئيس الفرنسي هو تدخل سافر بتركيبة المجتمع التونسي/العربي، كتقديم لنماذج فكرية أهدرت معرفتها بحقل الأنسية الفرنسية، إننا نرى اليوم مدى تشبث أنظمة ما بعد الربيع العربي بالغرب كمذهب إنساني، في المقابل يتذرّع بعض المثقفين بالتصرفات اللاخلاقية للسلطة لتبرير سخطهم على المجتمعات المقهورة، فبعضهم مازال يرابط عند بيت جيجك، ظنّا منهم أنّه سيفتح لهم نافذة غرفته؛ فخوفه من تحرر الشعوب يحيله إلى أنّ الله لم ينه مشروعه، وترك أشياء غير مكتملة على مستوى الكم. جاء الرّبيع العربي كي يخلق نوعا آخر من عدم الاستقرار الثقافي، وليكشف مدى زيف النّخب التي ظلت ولزمن طويل تنادي بالعلمنة والحداثة، وليعيد طرح سؤال النزعة الإنسانية للعالم الحر، الكون الفارغ بحق _كما وصفه الفيلسوف جيجك_ من كل حقيقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.