عادت القوات الأمريكية من جديد إلى العراق، وهذه المرة جاءت بوضع معقد، فلا مدن عدوّة وأخرى صديقة كما كان الوضع في السابق بعد أن اختلط كل شيء، ولا مقبولية لدى القوى السياسية التي مكَّنتها واشنطن من الحكم طيلة السنوات السابقة، والابن الذي أنشأته وربّته وكبّرته بخلطة "جميس ستيل" السحرية تركها وذهب لإيران وصار خطراً عليها، كما أن الخلاف الطائفي الذي كانت تعتبره أحد أهم أوراقها "الجوكر" لم يعد مؤثرا كما كان، وهذا لا يعني أن الخلافات في العراق انتهت بل تغيرت لتصبح داخل الطائفة والقومية والمذهب الواحد، ويعد ذلك عنصر قوة بالنسبة لها.
كما أن الفصائل المسلحة السنيّة المناهضة للوجود الأمريكي في العراق منذ ساعاته الأولى أمرها مبهم، هل ستعود تلك الفصائل بعد أن حلّت نفسها أو اندثرت عقب الانسحاب الأمريكي وتلملم جراحها بعد أن دُمرت مناطق نفوذها وحاضنتها وشُرد أهلها لتعاود المقاومة مرة أخرى؟ أم أنها ستكون في موقف مشابه للموقف الشيعي وخصوصا بعد الفتوى التي أصدرها أكبر مرجع شيعي في العراق "علي السستاني" عام ٢٠٠٣ والتي تقضي بحرمة قتال القوات الأمريكية واعتبارها قوات محررة؟
الثأر بين الفصائل السنية بشقيها العقائدي والوطني مع القوات الأمريكية ما زال قائماً، لا سيما بعد أن عاقبت الولايات المتحدة تلك الفصائل بالإضرار بالمجتمع السنّي بأكمله، من خلال تسليم مناطقهم إلى إيران بدءاً من تشكيل فرق الموت عبر إرسال خبراء الحروب القذرة بهدف إنشاء وتدريب قوات متخصصة بالاعتقال والتعذيب في السجون السرية وكان على رأس أولئك الخبراء "جيمس ستيل" خبير هذا النوع من الحروب، وحتى إدخال داعش إلى تلك المناطق ثم استبداله بالميليشيات والفصائل المسلحة المدعومة من إيران بعد حرب طاحنة دمرت الممتلكات وأهلكت الحرث والنسل.
ستغرق الولايات المتحدة في مستنقع سبق لها أن هلكت داخله بعد أن تورطت بالفساد الإداري والسياسي والأمني، وركزت على المختبرات التجارية التي أنتجت وحوش قتل ودمار ومافيات فساد |
لتعدَّ هذه العقوبة أقوى عقوبة شهدها التاريخ الحديث لمناطق قاومت الاحتلال الأمريكي، فجميع المدن والقرى التي قاومت الاحتلال دمرت عن بكرة أبيها وأجبر أهلها على النزوح، كما غيّب الآلاف من أبنائها وقتل عدداً كبيراً منهم تحت مرأى ومسمع قوات التحالف الدولي بقيادة أمريكا والحكومة العراقية ليس ذلك فحسب، وإنما ترك الضحايا من الأهالي الذين هدَّت بيوتهم فوق رؤوسهم تحت أنقاض منازلهم، ولم تنتشل جثثهم، كما أن المغيبين والمختطفين من شباب ورجال هذه المناطق يتم التكتيم على ذكرهم أو المطالَبة بمعرفة مصيرهم، وجميعهم من المناطق التي عرفت بمقاومة القوات الأمريكية.
الضريبة لم تقتصر على ذلك فقط بل وصلت إلى إفراغ مدن ومناطق شاسعة من أهلها وتشريد سكانها بالمخيمات، بعد أن قصفت وفجرت بيوتهم وممتلكاتهم، إذاً الثأر كبير والجرح عميق ولا يمكن أن يندمل خصوصاً أن جميع سكان المناطق المذكورة ينحدرون من قبائل عربية أصيلة تؤمن بالثأر ولو بعد أربعين عاماً، وهذا لا بد أنَّ واشنطن تدركه، وعليها:
أولاً: إعادة حساباتها بسرعة وإعادة سكان المناطق المتضررة إليها بعد إخراج الميليشيات منها، والإفراج عن المختطفين والمغيّبين والسجناء الأبرياء، إضافة إلى تركيز جهود إعادة الإعمار في تلك المناطق كتعبير عن حسن النوايا في هذه المرحلة وكتوضيح لطبيعة عملها في هذا الوقت:
وثانياً: إعادة النظر بالعملية السياسية وتركيبتها والجهات التي تتصدر المشهد السياسي والدستور.
وثالثاً: حتى تتضح نيتها تجاه الفاسدين الذين دعمتهم بتصدر المشهد العراقي خلال السنوات السابقة عليها دعم استقلالية القضاء وعدم التمسك بحيتان الفساد الحاكمة لمحاسبة جميع المسؤولين الفاسدين عبر حكومة وقضاء مؤهل لذلك.
وبغير هذا ستغرق الولايات المتحدة في مستنقع سبق لها أن هلكت داخله بعد أن تورطت بالفساد الإداري والسياسي والأمني، وركزت على المختبرات التجارية التي أنتجت وحوش قتل ودمار ومافيات فساد، لتجبر على إثر تخبطِها على الانسحاب وترك الساحة لإيران من أجل أضعافِ منْ أذاقوها العلقم.
الميليشيات والفصائل المسلحة التابعة لإيران والمتنفذة في العراق أرسلت بيانات تهديد ووعيد للقوات الأمريكية مضمونها إنكم هدف لنيراننا إذا عدتم من جديد إلى الساحة، لكن تلك التهديدات لم يتحقق منها شيء حتى الآن على الرغم من تجوال نائب قائد القوات الأمريكية في بغداد حاملاً على كتفه شعار عمليات العاصمة وتنقل القوات الأمريكية من بغداد إلى صلاح الدين ومن أربيل إلى كركوك، ومشاهدة تلك القوات في طرق ومناطق رئيسية وحيوية ببغداد، خصوصا أن الجهات التي هددت منتشرة ومهيمنة على الطرق التي مرّت بها تلك القوات ولم تمسّها أو تقترب منها.
هذه البيانات الصحفية قد تكون مجرد جسّ نبض أو طريقة تقليدية لحث الطرف الآخر على الحوار والتفاوض لاسيما أن مركب الفصائل المدعومة إيرانيا بدأ يغرق بعد تضييق الخناق على إيران والعزم على الحد من نفوذها في العراق، وعلى كل حال لم تعبّر أي جهة أمريكية حتى الآن تلك التهديدات أو تأخذها على محمل الجد.
لكن هذا ليس كل شيء.. فالأنباء القادمة من محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى تشير إلى أن إيران بدأت بتشكيل فصائل سنيّة مسلحة بدعم منها عبر شخصيات سنيّة تتبع لها، وسبق لبعضهم أن زاروا إيران والتقَوا بمرشدها "علي خامنئي"، حيث بدأ هؤلاء بالتطويع فعلياً بشكل سرّي وبهدف ضرب القوات الأمريكية الموجودة في مناطقهم بعد أن حصلوا على الدعم المادي وأخذوا الضوء الأخضر بذلك من قبل القيادة الإيرانية، وهذا يدل على أن إيران لا تريد تدمير ما بنته في العملية السياسية طيلة السنوات الماضية، كما لا تريد أن تصطدم القوة العسكرية الشيعية التي تدين لها بالولاء في العراق بالقوات الأمريكية، حيث اشتركت معظم تلك القوة بالعملية السياسية وحصلت على عدد كبير من المقاعد في مجلس النواب وجزء كبير من الكابينة الحكومية، إضافة إلى تغولها في جميع مفاصل الدولة وانتشارها العسكري في جميع أنحاء العراق باستثناء إقليم كردستان.
ومن هذه القراءة والمعطيات لا أتوقع إعلان أي مقاومة عسكرية سنيّة للقوات الأمريكية في الوقت الراهن، وعلى عكس ذلك أتوقع أن تظهر جميع الجهات السنيّة وخصوصاً المعارضة سواء العسكرية منها أو المدنية استعدادَها للعودة من جديد إلى الساحة العراقية والتفاوض مرة أخرى مع الولايات المتحدة على المشاركة في إدارة العراق بشرط إبعاد النفوذ الإيراني عن مناطق السنّة بشكل خاص والعراق على وجه العموم، إضافة إلى إبعاد هذا النفوذ عن الحكم، لكنْ من يدري؟ قد تتغير المعادلة إذا كانت نوايا واشنطن إبقاءَ الحال على ما هو عليه الآن مع إجراء بعض التعديلات غير الجوهرية، وهذا أيضاً غير مستبعد، فهناك من هو على استعداد أن يسلّمها مفاتيح الخزنة مقابل الحفاظ على مكتسباته، وهذه الخزنة أشبه بمغارة علي بابا التي يحلم بها ترمب وغيره من اللصوص والجشعين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.