شعار قسم مدونات

كوينتين تارانتينو.. خليفة نيتشه في هوليود

كوينتين تارانتينو.

"من ينازع وحوشا، يجب أن ينتبه جيدا ألا يتحول إلى وحش! فحين تطيل النظر إلى الهاوية، تنظر الهاوية أيضا إليك وتنفد فيك"

نيتشه

التسامح والعفو ليس إلا تعبيرا عن عدم قدرة الإنسان على تطبيق فكرة الانتقام، هي تعبير عن العجز أكثر من تعبير على فكرة الخير التي في حد ذاتها ترجمة لعدم قدرة الإنسان أن يكون على سجيته وغابويته ووحشيته، أن تغفر للإنسان لا تتأتى إلا بعد إسقاطه على الأرض.. قد تتسألون أين المغفرة هنا؟ إنها في الامتناع عن ضربه مرة أخرى والاكتفاء بإسقاطه على الأرض. هذه الفكرة على الرغم من غرابتها وتفردها قد تكون المدخل الأكثر بساطة لفهم سينما المخرج الأمريكي كوينتين تارانتينو، الذي برع في إظهار ثيمة الانتقام كمحرك هام لشخصيات أفلامه وجعل الانتقام جزء هام من طبيعة الإنسان.
 
كوينتين تارانتينو المزداد سنة 1963 والحائز على جائزتي أوسكار واحد من أغرب المخرجين في هوليود، أغلب الانطباعات على أعماله على قلتها – 8 أفلام –  تكون إما الاستغراب والدهشة والانبهار أو الاستنكار، فكوانتينو عاشق الدماء والعنف يجعل المُتفرج يتنقل بين المشاهد بطريقة مجنونة ممتزجة بكثرة الأحداث والموسيقى والدم بسبب أفكاره الغريبة والخارجة عن المألوف، أصوله الإيطالية أترث في أفلامه وجعلتها تدور حول العصابات والمافيا، هذا الخليط من العنف والغرابة والانتقام أنتج لنا علامة فارقة في تاريخ السينما اسمها  تارانتينو والذي برغم إرثه الضئيل إلا أن جميع أفلامه مصنفة ضمن قائمة أفضل 200 فيلم في التاريخ.

تارانتينو متقمصا دور نيتشه:
يظهر مدى تأثر تارانتينو بفلسفة نيتشه العدمية خصوصا في فيلم pulp fiction ففي غياب التفكير الميتافيزيقي سادت النزعة النسبية اللامعيارية وسقطت معايير الاستناد والاحتكام فغاب المعنى والقيمة عن حياة الأفراد

أخلاق العبيد عند نيتشه أنهم يظهرون الضعف على أنه قوة والعجز طيبة والوضاعة تواضعا والعجز عن الانتقام يصبح تسامحاً وصفحاً عن الإساءة، وأكثر من يكرههم نيتشه أولئك الضعفاء المخاطبون بالصفح والمسامحة، فهو يقول: هؤلاء متسامحون لأن لا مخالب لهم، وليس لأنهم يحبون التسامح، الإنسان المتفوق لدى نيتشه هو من يستطيع الانتقام ويستغل كل الفرص الممكنة لرد الاعتبار لنفسه، فخلف التحضر الذي يتغلف به الإنسان الحديث يوجد قاتل همجي، وهذا ما يتحدث عنه نيتشه. يقول نجيب محفوظ في روايته ثرثرة فوق نهر النيل: "كلنا أوغاد لا أخلاق لنا يطاردنا عفريت مخيف اسمه المسؤولية"، يحاول تارنتينو إذن تصوير ذلك الوحش القابع بداخلنا بجعل الانتقام وعدم المغفرة محور أفلامه، العنف المبالغ فيه في أفلام تارانتينو يكشف مدى تغول الإنسان ويعري عن الغابوية التي يحاول الإنسان الحديث إضمارها وإخفاءها.

يظهر مدى تأثر تارانتينو بفلسفة نيتشه العدمية خصوصا في فيلم pulp fiction خيال رخيص ففي غياب التفكير الميتافيزيقي سادت النزعة النسبية اللامعيارية وسقطت معايير الاستناد والاحتكام فغاب المعنى والقيمة عن حياة الأفراد، يتناول الفيلم قصة العميلين جولز وفينيست المطالبان بإعادة حقيبة- لا أحد يعلم ما بداخلها- لرئيسهما مارسيلس، وفي غياب المعنى لدى جولز وفيمينست لا يتساءلان أبدا عن ما يوجد في الحقيبة وهل يستحق أصلا ما يقومان به، بانعدام القيمة تصبح الحقيبة في حد ذاتها قيمة تبرر أي سلوك للحصول عليها بما فيه الخروج عن الأدمية.

وهم الإنسان المتحضر:

يقولون بأن الحضارة قد تأسست عندما ألقى أول رجل بكلمة عوض قطعة حجر، إلا أن إنسان الغاب بالرغم من ارتدائنا ثوب الحداثة والتحضر لا زال يقبع بداخلنا، مستعد دائما وفطريا  للإجرام والعنف، والتاريخ الغربي لمدى ليس بالبعيد مليء بأحداث تدحض فكرة سمو الإنسان المتحضر: النازية، الحرب العالمية، الحروب الأهلية.. كلها أحداث تعري الوجه الأخر لوحشيتنا، يلعب تارناتينو على هاته النقطة بالذات ويجعلها محفزا للامنطق في أفلامه وبذلك ينتقل بين الفكرة ونقيضها في قالب عبثي يجعل المتفرج يستمتع بمشاهد القتل والانتقام.

يرفض نيتشه بسخرية التبريرات الحديثة التي تبرر الأخلاق والقيم ويرى أن الغريزة وحدها من تحرك الإنسان، وهكذا يرى نيتشه أن الأخلاق ليست سوى قناع يتوارى خلفه حسد المستضعفين من سادتهم ليقيدوا سلطتهم. في فيلم kill bill اقتل بيل لتارانتينو يبني المخرج شخصياته على قاعدة الانتقام والتحرر من الأخلاق في سبيل إعادة الاعتبار للذات، الفيلم يُخرج بطلته من قالب العيش الرتيب إلى عالم الانتقام والتحرر من قيود القيم  كاشفا في ذات الصدد الميول العدوانية في الإنسان.
 
اللامعنى هو الصيغة الأساس لأفلام تارانتينو، فالطرق تؤدي إما للنجاح الباهر أو الهلاك، والضعفاء قد يخرجون عن قالبهم ويفاجئونك بقوتهم، تارانتينو يُظهر نسبية الحقيقة والقوة، وكسر المفهوم الكلاسيكي للواقع عبر جعل المتفرج يخلق واقعا خياليا خاصا به ربما نتيجة الصدمة من كثرة المشاهد العنيفة، التصادم في أفلام تارانتينو ليس سوى تسلقا سيزيفيا -نسبة لأسطورة سيزف- تقودنا له رغباتنا نحو تحقيق المال والجنس والسلطة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.