عندما قرأت رواية ايبولا 76 للروائي السوداني الكبير أمير تاج السّر شدّتني مجازفة الكاتب في شيء من العبقرية ربّما في وضع البطل لويس نوا أمام قدره مباشرة فكانت حربا ضروسا بينه وبين الموت لتنتهي اللعبة السردية في رواية ايبولا 76 بانتصار البطل على الموت في شيء يشبه المعجزة. لكن بعد أشهر قليلة أطلّ علينا تاج السرّ برائعة أخرى لقيت فيها عندما قرأتها نوعا من مغناطيسا السرد حيث كانت رواية الحبّ والجريمة وأشياء أخرى.. إنّها رواية 366 التي شكّلها صاحبها على نحو تراسلي فكانت في منزلة بين المنزلتين، أدب التراسل من جهة وما هي ببالغته وأدب القصّ وما انتهت إليه. وفي هذا المقال سنحاول تسليط الضوء على هذه الرواية التي أثارت الكثير من ردود الفعل النقدية والفلسفية.
يفاجئنا الكاتب منذ بداية الرواية بأنّ البطل يطلق على نفسه لقب المرحوم، فهو الميت الحي منذ البداية، وهذا يذكّر بما ذهب إليه الكاتب البرتغالي الكبير خوسيه ساراماغو في روايته انقطاعات الموت حيث قال في السطر الأوّل من الرواية: ومن الغد لم يمت أحد. لكن تاج السر وبحرفيته المعهودة أدمج الصدمة منذ الصفحة الأولى رجل حي يرزق ينادي نفسه بالمرحوم لأنّه حسب احساسه محنته اقتربت من نهايتها. إنّه أستاذ الفيزياء الذي وقع في حبّ فتاة تدعى أسماء، فتاة يراها صدفة في إحدى حفلات الزفاف دون أن يتحدث إليها أو يسمع صوتها أو يحصل على رقم هاتفها أو على الأقل أن يعرف اسمها الثلاثي كاملا.
رواية 366 لأمير تاج السر رحلة تراسلية تبحث عن الحبّ والمجهول في آن واحد على الرغم من المعرفة بفشل التجربة مسبّقا ولعلّنا نستحضر قولة باسكال على شرف هذه الرواية عندما قال: أمام تفوّق الآخر ليس لنا من خيار سوى الحبّ |
إنّها لعبة تراجيدية في أبهى تجلّياتها، ثنائية المأساة والملهاة، حب غريب يقضّ مضجع البطل ويدفعه للقيام بجملة من التصرفات التي يسمها بنفسه تحت عنوان حماقات. حماقة تدفع شخصا ما للبحث عن إنسان مجهول لا يعرف منه سوى وجهه الذي شاهده لدقائق في عرس. بحث ملهم عن هذه الأسماء، بحث يترجم كلّ تفاصيله على شكل رسائل يكتبها بقلم أخضر، ولنا أن نتساءل لماذا القلم الأخضر بالذات، إنّه ذلك اللون الناتج عن تداخل منسجم بين اللونين الأزرق والأصفر، حيث سرق من وضوح العقل والتفاؤل الذي يمنحه اللون الأصفر، ومن الهدوء العاطفي والغضب البارد في اللون الأزرق، ثنائية الأمل الملهم وكرم الروح الغير متاح في أي من الألوان الأخرى، إنّه لون التوازن والتناسق، فحسب وجهة نظر علماء النفس، يعدّ اللون الأخضر لونا متوازنا يريح العين ومنها ينفذ للقلب وللأحاسيس، فهو يخلق جسرا متينا بين العقل والقلب. ومن هنا تتضح عبقرية الكاتب الذي لم يختر اللون الأخضر اعتباطيا، فقد ولّد لعبة متناقضة أسّها اللون الأخضر، فعلى الرغم من جمالية هذا اللون في المدوّنة النفسية للألوان إلاّ أنّه في الرواية كان عنوانا للألم والأرق والانتحار.
إنّ رواية 366 هي رواية البحث والسؤال، رواية الزمان واللازمان، رواية المكان واللامكان.. وفيها ظهر اقتدار تاج السر في تطويع واقعة حقيقية إلى رواية، فتاج السر وجد هذه الرسائل وصيّرها رواية يتخطى من خلالها الواقع المعيش ولو انطلق منه. فقد كتب هذه الرائل المكتوبة بأسلوب بسيط وعفوي وهنا تولّدت المعادلة الصعبة: كيف نفتح باب مفتوحا منذ البداية؟ وتاج السر كان أمم هذا الرهان: كيف أكتب رسائل مكتوبة منذ البداية؟ إنّ في كتابة الكتابة تشكّل فنّي وانثروبولوجي مهمّ جدّا فكما قال مولانا جلال الدين الرومي ذات يوم: كلّ نفس ذائقة الموت لكن ليس كلّ نفس ذائقة الحياة نجد المرحوم قد عاش حياته دون أن يعيشها.
في الختام، كانت رواية 366 لأمير تاج السر رحلة تراسلية تبحث عن الحبّ والمجهول في آن واحد على الرغم من المعرفة بفشل التجربة مسبّقا ولعلّنا نستحضر قولة باسكال على شرف هذه الرواية عندما قال: أمام تفوّق الآخر ليس لنا من خيار سوى الحبّ.