كان عليّ التعرّف على الاختصاص قبل ولوجه، لم أفكّر فيه يوماً، حتى إنّه ثاني اختصاص درسته، فقد ارتبطت قبله بالترجمة وامتدت علاقتي بها لأكثر من ستّ سنوات كانت كفيلة بأن تستوطن قلبي. لكنّه ظلّ عشيقي الذي لو خيّروني بينه وبين غيره لتفرّدت به وحرّقت بقيّة الأوراق من بعده كوني أؤمن بمقولة طارق الحبيب (ما الحبّ إلّا للحبيب الأفضل) حتى ولو لم يكن الأول!قيل لي مرّات عدّة أنّني أصلح لأن أختصّ في الأمراض النفسية ولأكون صادقة كنت أؤمن بذلك، لكنّه لم يكن حلمي ولم يكن شغفي، واختصاص كهذا لم أكن لأطرقه وأورّط نفسي فيه لو ما وجدته مفروشا في شخصيتي؛ فأخذت أواعده في الكتب كلّما أطلقت الترجمة سراحي في الأربع سنوات الأولى منها في العطل، كمراهقة كنتُ ميّالة للغرب ومن حسن حظّي أنّني انجذبت لدراسته بفضلهم فعشقته.
جذبتني الأشرطة والأفلام الأمريكية كثيراً لهذا الاختصاص، ورفعت قبعتي لما يولونه من أهمية له، فقرّرت ولوجه وأحببته وآمنت به، ولأجله تصالحت مع مادة العلوم يوم تعرّفت فيه على التشريح وعلم الأدوية والأمراض السايكوسوماتية وغيرها. زمانا كان يهاجم بشدّة في مجتمعاتنا ويكاد المختص لا يجد خبزته إلّا في المصحات العقلية النادرة؛ رغم أنّ الأسر العربية كانت تخفي وجود مرض عقلي في بيوتها في إطار نظرية نظرة المجتمع لها، والسوء الذي سيلحق بسمعتها خاصة إذا تعلّق الأمر بالزواج. فضلا عن مفهوم الجنون الذي كان ولا زال يدور في أذهان البعض، فيخيّل لهم أنّ كل من طرق باب مختص في التعب النفسي (مجنون) وعليهم أن يبقوا بعيدين عن متناوله ويحرم الارتباط به أو إزعاجه والمشي في ساحته، خوفاً من أن يثور عليهم فينتّف شعورهم ويخدش وجوههم، أو أن يخنقهم ليلاً وهم نائمون. إنسان كهذا كان يُربط في البيت ولا يخرج منه إلّا لقبره!
أتذكّر أوّل مريض شفي على يدي! وأتذكر أنني به تعلّمت معنى التحرّر والحريّة ومعنى ألّا أكون تبعيّة وأن أبحث بنفسي وأتأمّل وأنقد وأتعلم كما يروق لي حتى إنّي بفضله عدت لأتدبّر في القرآن |
لا أزال أتذكّر تفاصيل البداية بحذافيرها، فأوّل طالب في القسم قال له أستاذ التشريح أنّ الاختصاص يليق به كان أنا وكنتُ كذلك أوّل طالب تلقّى توبيخاً من الأستاذ نفسه يوم تهت في خيالي فلم أتمالك نفسي من الضحك وهو يتفنّن في سرد تفاصيل حالة وسواس قهري كان يعالجها تحشو أمعاء كبش العيد بماء جافيل والصابون عشرات المرات لتنظّفه. كان عامي الأول وكانت المرة الأولى والأخيرة التي ضحكت فيها على حالة؛ كلّ الحالات بعدها تعاملت معها بجدية واحترام. لا أزال أتذكّر أوّل مرّة جبت فيها مستشفى للأمراض النفسية في حياتي، عبر فيديو شاهدته مراراً وتكراراً لأعوّد نفسي على تلك الحياة. لا أزال أتذكّر أوّل علاماتي في الأمراض السايكوسوماتية وعلم النفس المرضي والفحص والتشريح ولحسن الحظ كانت ممتازة. لا أزال أتذكر أوّل خدمة طلبت منّي؛ أن أحلّل الشخصية وكم كان الأمر مزعجاً لأن من كان يطلبها لم يكن يطلب تحليل الشخصية بقدر ما كان يتوسّل إليّ بأن أقرأ له الفنجان وأسعده. أتذكّر أوّل مرّة ارتديت فيها مئزراً أبيضاً بالأكمام، وأوّل مرّة وطأت فيها أقدامي مصحة الأمراض النفسية والعقلية للتربّص وأوّل مريض شاهدته فيها، لقد كان المريض شجرة عنب يابسة حبلى بعناقيدها المثمرة، لم أر مثلها في حياتي؛ يوم رأيتها صدّقت كلّ ما قرأته في كتاب (النبات يحبّ ويتألّم ويقرأ أفكار البشر). أتذكّر أوّل قاعة انتظار مكتظة بالمرضى هناك وأغرب الحالات والأشكال التي لم يسبق وشاهدت مثلها في حياتي.
أتذكّر أوّل رعب تملكنّي وأوّل ندم على الاختصاص تلحّفني وأوّل عبارة (ماذا فعلت بنفسي) صدرت منّي، وأوّل يوم توسّطت فيه أشخاصاً لطالما تحاشيت طريقهم في الشوارع وركضت مع الراكضين هرباً منهم، كلّ وحالته، كلّ وشكواه. أتذكّر أوّل حالة فصام قابلتها لشاب في سنّ الـ 27 ووجه أمّه الشاحب الحزين. وأوّل مرّة شعرت فيها بالمسؤولية العظمى وأوّل مرة أدركت فيها أن حياة ومصير أحدهم متوقف عليّ. أتذكّر أوّل مرة تصفحت فيها الدليل الإحصائي التشخيصي للاضطرابات النفسية (DSM)، أتذكر وصايا أساتذتي وحكاياتهم وتجاربهم والبعض. أتذكّر ألوان وجوههم كيف بدّلتها مصلحة الرعاية التلطيفية التي كانوا يحضّرون فيها المرضى الأسوياء المصابين بأمراض خطيرة ومزمنة للموت. أتذكّر بحّة القهر وعسر الأحداث الأليمة التي جعلتهم يهربون من الميدان إلى التعليم طمعاً في راحة نفسية لما تبقى من أعمارهم.
أتذكّر كيف كانت دكتورة تلقي علينا محاضرات متعلقة بالإعاقات والمتلازمات وقلبها علينا حين تستشعر الحزن مختلطاً بالخوف في وجوهنا فتخاطبنا قائلة: (أعلم أن فيكم من يقول الآن سأحرّم على نفسي الزواج، خوفاً من أن يولد له طفل بمتلازمة ما، فأصحاب الاختصاص هم من يتخوفون أكثر) أتذكر حكاية مختصة تسبّبت في انتحار مريض بكلمة، ذاك المريض الذي جاء يطلب المساعدة فإذا بها لم تحسن الحديث معه وأرعبته بجهنّم فألقى بنفسه من الجسر. أتذكّر أوّل دفتر قيّدت فيه الحالات بأسمائها وتفاصيلها وأوّل فرحة عن قصة زواج قد تبدو لك غريبة جمعت فصامياً كان يعالج عندنا بطبيبة. أتذكّر أوّل محاولة انتحار شهدتها في حياتي لعجوز أرهقها الخذلان وأخرى لطفل عبقري وثائر لم يحتمل الابتعاد عن بلد غربي والعيش في فساد الجزائر.
أتذكّر أوّل ليلة قضيتها أبحث عن حلّ لمريضة كانت تعاني من مشكلة عويصة وأوّل مخطّط BASIC ID رسمته لمريض كان بحاجة إليّ فظلّ يتردّد عليّ، أتذكّر أوّل طفل كان يعاني من فرط حركي وآخر تعاني والدته من مرض نفسي فأسقطته عليه وجاءت به للمستشفى ليداوي وهو لا يشكو من شيء. أتذكّر أوّل مريض شفي على يدي! وأتذكر أنني به تعلّمت معنى التحرّر والحريّة ومعنى ألّا أكون تبعيّة وأن أبحث بنفسي وأتأمّل وأنقد وأتعلم كما يروق لي حتى إنّي بفضله عدت لأتدبّر في القرآن أكثر وفي نفسي وغيري وفي الكون وأحببت أن أتطوّر.
أن تختص في الأمراض النفسية يعني أن تقضي ليال تتصفّح فيها وجوه الناس التي مرّت عليك تطلب النجدة بكلّ تفاصيلها وتغادر الفراش إلى الكتب لتصنع الخطط وترمّم حياة تكسّرت داخل أسرة |
أن تختصّ في الأمراض النفسية يعني أن تكون عرضة للاحتراق النفسي وللهجوم المجتمعي، فالكل ينتظر منك أن تكون بلسماً خارقاً للجروح، وأن تبعث العقول التي اختلت إلى الحياة من جديد وتتكفل بالمريض كما تتكفل الأم بوليدها وأن تلمّ شمل الأسر وتكافح الانحراف. وتعدّل السلوك وتقضي على الإدمان وترفع سيفك في وجه الأحزان وتحلّل الشخصيات وتعمل كمنجّم وتأتي بالحلول السريعة والفعالة. وتطيّن مآقيك في الوقت الذي تفيض فيه عيون محدّثك وتمنحه أحضاناً افتراضية. أن تختص في الأمراض النفسية يعني أن تتعرض للخطر وأنت تقابل إنساناً متعباً منفعلاً في مكتب مغلق لمدة معتبرة، يعني أن تكتم الأسرار وتطّلع على تفاصيل الناس وتتعمق في العلاقات والأحداث وتسمع حكايات المجتمع بأسرها. حتى إنك قد تقابل مجرماً يطلب التستر عليه، يعني أن تكون طبيباً ومحقّقاً ومهندساً. أن تختص في الأمراض النفسية يعني أن تتهم بالجنون في كلّ مرة وأن تكون في نظر الكثيرين معصوماً من العديد من الأخطاء والأحزان والألم والشكوى، وأن تنسى أنّك إنسان يحس ويتألم ويتعب ويحترق هو الآخر.
أن تختص في الأمراض النفسية يعني أن تخصّص لكل فرد يطلبك مكاناً في قلبك وضميرك ونفسيتك، أن تختصّ في الأمراض النفسية يعني أن تستعدّ لسماع الانتقادات الهدامة اللاذعة التي يتلقاها الاختصاص قبل المختص في مجتمعات ما وأن تروح ضحية أولئك الذين وجدوا ليهيموا في أروقة المستشفى ويتجمعوا للثرثرة في ساحاته. أولئك الذين وُجدوا ليرقّعوا فيه وليشخصوا جميع الحالات التي تعترضهم قلقاً دون أن يكلّفوا أنفسهم متعة البحث والتعلم. أن تختص في الأمراض النفسية يعني أن تحمل أمانة فإمّا أن تحفظها وإمّا أن تضيّعها فتضيع.
أن تختص في الأمراض النفسية يعني أن تقضي ليال تتصفّح فيها وجوه الناس التي مرّت عليك تطلب النجدة بكلّ تفاصيلها وتغادر الفراش إلى الكتب لتصنع الخطط وترمّم حياة تكسّرت داخل أسرة، أن تختص في الأمراض النفسية يعني أن تمنح نفسك لمجال هو الأصعب من بين الاختصاصات، فخطأ صغير فيه قد يؤدي إلى كارثة، سهل أن تقول أنا مختص لكن صعب أن تكون حقّا كذلك. أن تختص في المرض النفسي يعني أنّك نذرت نفسك لتخرج إنساناً من الظلمات التي تأسره إلى النور الذي يتمناه، يعني أن تحتمل وتصبر وتتقدم وترشد وتتعاطف وتهتم وتحتوي وتكسب الثقة وتشارك، يعني أن تبصر وتنصت وتحس بكل ما أوتيت من قوة وبعد نظر وبصيرة، يعني أن تدرك مفهوم المسؤولية وتحملها على عاتقك، يعني أن ترتدي إنسانيتك مع مئزرك الأبيض وبدونه وتغذّي بصرك وسمعك بالذكاء وتغذّي عقلك بالحكمة وتوسّع قلبك وتفرض نفسك بمهاراتك وأبحاثك وجهودك في الوسط الطبي فقد تكون مفتاح الشفاء