كان هذا في أصيل يومٍ حافلٍ بالنشاط والعمل، عدت للبيت مرهقة أبحثُ عن لحظةِ راحة وسكون. دخلت البيت الذي غادرته صباحًا من دون ان أرتب ما حصل فيه من فوضى نتيجة تحضير أطفالي للمدرسة وإعداد طعام الإفطار لهم. ألقيتُ نظرة على الأواني المتكدسة، وعلى الملابس المبعثرة هنا وهناكْ. تمنيت لو أنني أملك العصا السحرية لتحويل ما أرى من فوضى إلى وضعه الطبيعي ولأنعم بلحظة هدوء بعد يوم عملٍ شاقّ خارج البيت. أيقظني من أحلام يقظتي طفلتي وهي تطلبُ مني أن أساعدها في تبديل ملابسها وطفلي وهو يطلب مني أن أُعدَّ طعام الغداء.
وضعت أحلامي جانبًا وهممت إلى أشغالي وأعمالي اليومية التي لا تنتهي. تحضير الطعام، مساعدة الأطفال في الدروس، اللعب معهم، وفي نهاية اليوم الحافل تهيئتهم للنوم، وقراءة القصة التي تفرض عليّ أن أقوم بتقليد جميع أصوات الشخصيات كلٌ حسب دوره في القصة حتى يعيش أطفالي جو القصة ويستمتعون بمراقبة تعابير وجهي التي تتغير تبعا لكل شخصية ومتطلباتها. بعد أن وضعت كلا في سريره وطبعت قبلة على وجوههم، شعرت أنني قد أديت مهامي اليومية المتعبة وأن حملا كان يثقل كاهلي قد بدأ ينزاح عني.
وأخيرا جاءت اللحظة الموعودة؛ لطالما انتظرتها في دقائق يومي اللحظة التي أخلو بها إلى نفسي ومشروبي الساخن المفضل، أجلس، أتأمل وأفكر كثيرًا. مع أنني لا أصدقكم القول إن أخبرتكم أنني قد أنهيت مهام البيت جميعها ولكن لا محالة لا بد لي من راحة تعيد إلي توازني المفقود. في ذلك المساء بالذات كنت في غمرة التمني بأن يمر الزمن بسرعة ويكبر الأطفال، يكبرون ليعتمدوا على أنفسهم ويتخلوا عن حاجتي في كل صغيرة وكبيرة. أن يتركوا لي على الأقل مساحة حتى أعيش حياة طبيعية هادئة من دون أن يقاطعني طفلي مئات المرات في اليوم ليسألني لماذا لا نتنقل في البيت بواسطة الحبال كما يفعل طرزان في الغابة. لطالما ضحكت من تفكيره ولكنني في الوقت ذاته ذهلت لخياله الواسع الذي يعجز عنه تفكيري المحصور في أداء واجباتي ومهامي كأم وزوجة!
أن أنعم بشرب فنجان قهوتي في وقتي المفضل من دون أن تحاول صغيرتي أن تمسك به عشرات المرات وتحاول تبريده لتشرب هي أيضا فأغضب وأتركه جانبا لأبادلها اللعب وأحضنها كلما ضحكت من انفعالي وسعادتي بها. أن اصحو صباحا وأعد نفسي للعمل بكل هدوء من دون أن اضطر للركض في سباق خاسر على الأغلب مع الزمن، وأن انطلق إلى عملي مهيأة نفسي ليوم العمل بأفضل حال وأعود غير عابئة بوقت انتهاء دوام المدارس ورياض الأطفال.
كنت أفكر في كل اللحظات التي تمنيت أن أعيشها كما أريد، من دون مضايقة أو مقاطعة أو تنغيص. وأنا جالسة أمام شاشة التلفاز مستقرة ببصري عليه لكنني لا أراه لأنني كنت أحلق في عالم من الخيال والأفكار والتمني. حولت نظري عن شاشة التلفاز إلى هاتفي وتذكرت حين قرأت التاريخ، غدًا هو عيد ميلاد ابنتي التاسع! يا إلهي ما أسرع الأيام! لا أصدق أنه قد مرت تسع سنوات منذ حملتها بين ذراعيّ لأول مرة. صفعتني حقيقة ظهرت فجأة أمام عيني: الزمن لا ينتظر، سيأتي ذلك اليوم الذي سأستيقظ به على مهل من دون أن أنظر إلى الساعة أو حتى أضبط المنبة. ستمرّ الأيام وسيغلق صغاري أبوابهم لأن عالمهم ببساطة أصبح مختلفًا عن عالمي. وسيتركون أحاديثي ويستأنسون لأحاديث أصحابهم وأقرانهم.
ربما تمنينا كثيرًا ليمر هذا الوقت، لتمر الليالي الطويلة التي نقضيها بجانب طفل مريض، أو يمرّ الوقت الذي نقوم فيه بتدريب طفل على استعمال المرحاض، أو تمر ساعات الدراسة الطويلة جدا بجانبهم، أو تمر أيام الرضاعة الطبيعية بسرعة لأننا لم نعد نطيق الالتزام أكثر. نعم تمنينا كثيرًا لدرجة أننا نسينا أن نعيش اللحظة التي لن تعود أبدا! همسة في أذن كل أم، إذا طلب منك طفلك أن تلعبي معه لعبته المفضلة لا تقولي له أنك مشغولة، بل شاركيه ألعابه وشغفه، إذا حدثك بحماسٍ عن يومه في المدرسة اصغي له بكل حواسك وكأنك تسمعين أجمل قصة سردها أحد عليك، إذا رفض أن ينام بدون قبلة قبل النوم لا تتأففي بل اغمريه حنانا لأنك ستبحثين عنه يومًا وسيكون في غمرة انشغاله عنك. الأمومة لحظات ثمينة لا تضيعيها بالتمني والتأفف والشكوى، شاركي أطفالك كل لحظات ومراحل حياتهم وأنت في منتهى السعادة والرضا. كوني أجمل مثال لأطفالك لأن صورتك الجميلة ستبقى محفورة في أذهانهم إلى الأبد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.