على الرغم من أن الدبلوماسية معروفة كعلاقات وأنشطة تقوم بها جهات حكومية داخل الدولة أو خارجها (وغالبا ما تنتمي لوزارة الخارجية)، إلا أنها – من ناحية تواصلية – سلوك تواصلي مخصوص يهدف إلى ربط العلاقات والحفاظ عليها وتحسينها مع الآخر سواء كان مجموعة دول أو دولة أو جماعة أو مؤسسة أو أفراد. وغالبا ما يتم هذا السلوك التواصلي وفق دراسة مسبقة وقواعد متفق عليها تفاديا للأخطاء التواصلية ومن ثم سوء الفهم. ويستخدم هذا السلوك التواصلي اللغة اللفظية (منطوقة ومكتوبة) واللغة غير اللفظية بمفهومها الشامل: أي التواصل غير اللفظي. فما أهمية التواصل غير اللفظي للدبلوماسية؟ وكيف توظفه من أجل تحقيق غاياتها؟ وما المخاطر التواصلية الناجمة عن سوء استخدام التواصل غير اللفظي؟
إن التواصل غير اللفظي هو الرسائل التواصل الموجودة في الكون الذي نعيشه، ونتلقاها عبر حواسنا الخمس، ويتم تداولها عبر قنوات متعددة، وتشمل كل الرسائل التواصلية حتى تلك التي تتداخل مع اللغة اللفظية والتي تعتبر من ضمن بينتها. وتتجلى رسائل التواصل غير اللفظي عبر سلوك العين، وتعبيرات الوجه، والإيماءات، وحركات الجسد، وهيئة الجسد وأوضاعه، والشم، واللمس، والذوق، والمسافة، والمظهر، والمنتجات الصناعية، والصوت، والوقت ومفهوم الزمن، وترتيب البيئة الطبيعية والصناعية.
انطلاقا من تعريفنا للتواصل غير اللفظي، يتضح أن جل الأنشطة الدبلوماسية الرسمية وغير الرسمية تتم عبر السلوك غير اللفظي، سواء تعلق الأمر بالسفارات كفضاءات ترمز إلى الدولة المعنية (تعلوها راية الدولة)، أو لقاءات الدبلوماسيين بنظرائهم أو الزيارات الرسمية للمسؤولين، أو أنشطة الدبلوماسيين في الأماكن العامة بالدولة المستضيفة، فضلا عن قواعد الإتيكيت والبروتوكول التي تنظم تصرفات الدبلوماسيين في المناسبات الرسمية.
التحدي الرئيس الذي يواجهه الدبلوماسيون في مجال التواصل غير اللفظي، هو كيفية الموازنة بين التعبير عن الثقافة الوطنية دون الوقوع في الأخطاء التواصلية الناتجة عن اختلاف الدلالات، ومن ثم التسبب في سوء الفهم |
فعلى سبيل المثال، يستطيع الدبلوماسيون قول الكثير عن مواقف بلدانهم أو ثقافاتها من خلال نظرات العين (في حالات التحديق والنظرة الخاطفة والإشاحة والنظرة المحايدة والغمز والنظرة الانفعالية: الحزينة أو الغاضبة أو الفرحة أو الودودة أو المندهشة)؛ أو من خلال تعبيرات الوجه (الابتسام والضحك والاشمئزاز والغضب والحزن والتعبيرات المركبة)؛ أو إيماءات اليدين (الرامزة أو المؤشرة أو المكيفة للبيئة)؛ أو هيئة الجسم (المشي والوقوف والاتكاء والجلوس: المسترخي أو المريح أو الحذر أو القلق أو الخائف)؛ أو من خلال المظهر (ويشمل المظهر الجسدي، والزي: الرسمي أو غير الرسمي أو القومي، والإكسسوارات)؛ أو تلوين الحديث (من خلال نبرة الصوت وارتفاعه وسرعته والتشديد على بعض الكلمات والتنغيم والصمت).
إن التحدي الرئيس الذي يواجهه الدبلوماسيون في مجال التواصل غير اللفظي، هو كيفية الموازنة بين التعبير عن الثقافة الوطنية دون الوقوع في الأخطاء التواصلية الناتجة عن اختلاف الدلالات، ومن ثم التسبب في سوء الفهم. فلكي يتفادى الدبلوماسي سوء الفهم، لابد له من التعرّف على مبادئ التواصل غير اللفظي في الدولة التي يعمل بها، سواء تعلق بالأمر بإلقاء التحية أو الوداع؛ أو ترتيب البيئة في المناسبات الرسمية والاجتماعية والترفيهية؛ أو اللقاءات التفاوضية؛ أو التواجد في الأماكن العامة؛ أو التعاطي مع الوقت (من حيث دقة المواعيد، والفترة الزمنية المتاحة للعملية التواصلية)؛ أو تعمّد الظهور بمظهر الأجنبي أو عكس ذلك من خلال ارتداء الأزياء، أو الاحتكاك مع الآخرين (من حيث المسافة التي تفصل بينه وبين الآخر)، أو التحدّث بلكنة مختلفة، فضلا عن الاختلاف في المظهر الجسدي.
يستطيع الدبلوماسيون أن يستفيدوا من قدراتهم ومهاراتهم التواصلية غير اللفظية في كافة أشكال العمل الدبلوماسي، وفي مقدمتها الآتي:
1- التفاوض: وهو شكل من أشكال التواصل المواجهي المستند إلى الحجاج والدفاع عن المواقف قصد تحقيق المكاسب، لذا يجب أن تستخدم فيه اللغة اللفظية واللغة غير اللفظية وكافة المهارات التواصلية بفعالية. ويحتاج الدبلوماسي المفاوض إلى معرفة الخصائص العامة للتواصل غير اللفظي لأفراد الطرف الآخر في العملية التفاوضية، حتى يتمكن من القراءة الصحيحة للمواقف وهامش الضغط وهامش التنازل، وحتى يتجنب الوقوع في الأخطاء التواصلية التي يمكن أن يستغلها الطرف الآخر. فرب نظرة غير مدروسة أو تثاؤب عابر أخبر الخصم بنقطة ضعف فاستغلها للضغط من أجل تحقيق مكاسب.
2- توطيد العلاقات: إن تجنب القيام بالسلوك غير اللفظي الذي له دلالات سلبية أو يُساء فهمه في الثقافة المضيفة، مصحوبا بالتعرف على بعض السلوكات غير اللفظية المعززة للعلاقات الإيجابية والمتداولة في الثقافة المضيفة (كالطرق المخصوصة لإلقاء التحيّة عند الإثنيات أو الأقاليم أو الحواضر المختلفة؛ وتقديم الهدايا التي لها رمزية ودلالة كبيرة في الوجدان القومي؛ وحضور بعض المناسبات بصفة تتجاوز الصفة الرسمية البروتوكولية الأمر الذي يوحي بالاهتمام الفردي بالثقافة والفكر) يساعد على توطيد العلاقات الدبلوماسية، حيث يعود الفضل الأكبر للدبلوماسي الذي وظّف مهاراته في التواصل غير اللفظي الفعّال – على صعيدي الإلقاء والتلقي – مقارنة بالدبلوماسيين الذين يكتفون بالإداء الرسمي الإداري الروتيني دون أي اجتهاد أو استثمار لمهاراتهم.
3- إدارة الأزمات الدبلوماسية: جل الأزمات الدبلوماسية هي نتاج لأخطاء تواصلية سواء تعلق الأمر بمحتوى تصريحات أو توقيتها أو طريقة إلقائها، أو القيام بسلوكات غير لفظية غير مقبولة سواء كانت متعَمّدة أو غير متعَمّدة، لذا قد يحتاج الأمر إلى الحرص على التناغم بين السلوك اللفظي وغير اللفظي أثناء إدارة هذه الأزمة خاصة عند الاستعانة بإرث العلاقات الطيبة بين البلدين.
4– بناء الصورة الذهنية الإيجابية: يقوم التواصل غير اللفظي بدور رئيس في بناء الصورة الذهنية الإيجابية للأفراد أو المؤسسات أو الدول. ذلك أن للتواصل غير اللفظي مصداقية أكبر مقارنة بالتواصل اللفظي في التعبير عن الثقافة والحضارة والقِيم؛ وجمالياته تتسم بالفرادة (خاصة في حالة المظهر، وإدارة العمليات التواصلية، والتعبير عن الانفعالات، وترتيب البيئة).
5– معرفة الثقافة الجوانية للبلد المضيف: ونقصد بالثقافة الجوانية بعض الخصائص الثقافية-الحضارية التي لا تتجلى إلا لأصحاب البلد ومَن انغمس في ثقافتهم من الأجانب حتى لم يعد يبدو غريبا (كمعرفة أسرار التطريب والإبداع والحميمية، والمحظورات، وموجبات الفخر والاعتزاز). إن الاهتمام بالتواصل غير اللفظي في البلد المضيف، يقود إلى الإلمام بالثقافة الجوانية فيصبح الدبلوماسي خبيرا في التواصل مع هذا البلد ويمكن الاستفادة من هذه الخبرة في كافة القضايا والعلاقات التي تجمع بين البلدين.
هكذا يمكن القول إن التواصل غير اللفظي من أهم المباحث التي يجب أن تتصدر تكوين الدبلوماسيين، وتكون مهارات التواصل غير اللفظي الفعال عنوانا للدبلوماسي الناجح القادر على التعاطي مع تعقيدات العلاقات الدولية بما تتضمن من صراعات وحروب باردة وتحالفات ومفاوضات وتحديات مستقبلية. ولا شك أن البلدان السائرة في طريق النمو – وفي مقدمتها البلدان العربية – أحوج إلى تحسين مستواها في التواصل غير اللفظي حتى تتمكن من إدارة أزماتها الكثيرة بالطرق الدبلوماسية، وحتى تلحق بركب البلدان التي تقدمت في هذا المجال فجعلت من التواصل غير اللفظي عِلما رئيسا يدخل في مكونات كافة العلوم، فضلا عن منافعه للدبلوماسية الحديثة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.