شعار قسم مدونات

كلُّنا ظالمون.. ولكن!

مدونات - الظلم

كلنا ظالمون ولكن بدرجات متفاوتةٍ، وأشكال عدّة، منّا من يظلمُ نفسه عندما يحُمِّلها ما لا تطيق وتحتمل، عندما يسيء في اختياراته، عندما يعصي ربه، وظلمُ الإنسانِ لنفسه كان أول ظلمٍ شهدته البشرية، إذ أن في قول الله تعالى: قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ إشارة إلى ذلك، حيث جاءت هذه الآية بعد عصيان سيدنا آدم وحواء أمر الله تعالى وعدم امتثال أمره حين نهاهُما عن الأكل من تلك الشجرة، فكانت عاقبتهما أن هبطا من الجنَّةِ إلى الأرض.

ظلمُ الإنسان لنفسه إما ينجمُ عن جهلهِ أو غفلته، لذلك جعل الله طلب العلم فريضةً على كلِّ مسلم، وكان أول ما نزل من القرآن الكريم كلمة "اقرأ". فحريٌّ بالإنسان أن يبحثَ عن كلِّ علمٍ ينفعُهُ أينما كان؛ ليكونَ فطناً يعلمُ ما يناسبهُ في حياته من خيارات، فيدفعَ عن نفسهِ الضَّرر، ويقي نفسَهُ من السَّقمِ والعلل، ففي إتلافِ الإنسان لصحته ظلم، وفي هدرِ وقته على توافه الأمور ظلم، كما في إطالة النَّدم وبالعلمِ يمسكُ الإنسانُ زمامِ أمورِ حياتهِ، وينظِّمُها ويترك جميلَ الأثر. أما النَّوعُ الثاني من الظلمِ وهو الأدهى والأَمَّر، ظلم الإنسان لغيره من البشر، هذا الظلم الذي لا يُستهانُ بهِ أو يُغتَفر، الذي يلقي بصاحبهِ في سَقر، وإن كان مؤدٍّ لفروضهِ الخمسة، ومن النَّوافلِ ما تيسَّر. وكما جاء في الحديث القدسي الذي رواه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه "يا عبادي إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا"، وفي هذا نهي صريحٌ عن الظلم فالظلمُ ظلماتٌ يوم القيامة.

الظلمُ في حياتنا تفشّى وانتشر بصورةٍ مرعبة في كل مناحي الحياة، ولعلَّ هذا أحد أسباب معاناةِ شعوب أمتنا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن الله ينصر الدولة الكافرة بالعدل، ويهزم الدولة المؤمنة بالظلم"، ففي عدم وضع المسؤول المناسب في المكان المناسب ظلم، والمحسوبيات والوساطات في الوظائف ظلم يظلمُ الأب ابنه ربما في اختيار أُمِّه بدايةً، أو يظلمه في اختيار اسمٍ غير مناسب يبعث على السُّخريةِ أو السَّلبية، أو بالتَّمييز بينه وبين إخوته. يظلم الناسُ بعضَهم بالغيبة والنّميمة والافتراء، الزوجُ يظلم زوجته أو بالعكس. الظلمُ يهتزُّ له عرشُ الرَّحمن، يدمي قلبَ المظلوم، ويملأ قلب الظّالم بشتّى الأسقام، يسودُّ قلبُهُ ويصبحُ نتناً كالقطران. الظُّلم عواقبه وخيمة، يكسرُ قلبَ المظلوم، ويملأه بالهموم، يُحدثُ في فؤادِ الظالمِ فساداً وضيقاً وتَحجُّراً بدوامه يدوم. ودعوةُ المظلومِ ليس بينها وبين اللهِ حجاب، تفتحُ له مُغلَق الأبواب، تزيلُ عنه الكدَر وحُرقةَ القلبِ، وتدَّخِرُ لهُ الأجرَ والثواب. فحين يصيبُ المظلومَ الأرَّق، ويرفعُ أكفَّهُ يناجي الرَّحمن، فتختلطُ كلماتُ دعائهِ بالدُّموعِ المعتَّقة، يعدهُ الله بالنَّصرِ المبين، ويقول جلَّ جلاله (وعزَّتي وجلالي لأنصُرَنَّكَ ولو بعد حين).

لنقيِّم ذواتنا في نهايةِ مطاف كلِّ يوم كما نحسبُ أمورنا المادية، وخسائرنا وأرباحنا. ولنجرد حسابات أعمالِنا أولاً بأول؛ لنتحاشى ظلم أي أحد.

ومن الظَّلمةِ الذين مروا في التاريخ، قارون الذي بغى على قومه لما آتاه الله من الكنوز ما تنوء بثقله العصبة أولي القوة، وبغى عليهم بجبروت الخبرة كما ظن والذكاء والعلم الذي عنده فماذا كانت النتيجة؟ "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ" كما جاء في سورة القصص. وأبرهة صاحب الفيل الذي بنى كنيسةً بصنعاء ليصرف الناس للحج إليها ويجعل العرب يأتونها بدلاً من الكعبة ماذا كانت عاقبته؟ صرف الله عنها الناس وهيأ من يوقد فيها حريقاً ويلطخها بالنجاسة، فأراد أن يأتي البيت ويهدمه حجراً حجراً، فماذا فعل الله به؟ أرسل طيراً أبابيل جماعاتٍ جماعات تحمل الحجارةَ وترمي أبرهةَ وجنودَه بها، حتى رجع صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فمات هناك وقد هلك أكثر جيشه وانتهى. وفي نصر المظلومين أذكر قصة الصحابي سعيد بن زيد – رضي الله عنه – إذ روى مسلم في صحيحه أن أروى بنت أويس قد ذهبت إلى مروان بن الحكم تشتكيه أن سعيداً بن زيد رضي الله عنه قد أخذ جزءاً من أرضها ظلماً، وفى دفاعه عن نفسه نفى سعيد بن زيد أن يكون قد أخذ شيئاً من أرضها بعدما سمع رسول الله صلى الله علية وسلم يقول: "من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طوَّقهُ إلى سبع أرضين"، فرد علية مروان بن الحكم قائلا: "وأنا لا أسألك بينة بعد هذا". فجاءت دعوة المظلوم سعيد بن زيد يقول: "اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها واقتلها في أرضها". وفعلاً ما توفت أروى بنت أويس حتى فقدت بصرها، وفى يوم بينما هي تسير في أرضها وقعت في حفرة لا تراها فماتت بها.

وأعرف قصة رجل استدان مبلغ بضعة آلاف من أجل إتمام أحد المشاريع، وبعد انتهاء المدة المحددة لإعادة المبلغ حضر الرجل للمطالبة بحقه ولكن الأول قام بطرده، وأنكر عليه ماله مستغلاً عدم وجود أي ورقة إثبات بينهما. وبعد مضي ثلاثة أشهر خسر صفقة بقيمة نصف مليون ومنذ ذلك اليوم والخسارة تلازمه، ومع أن زوجته نصحته بإرجاع المبلغ لصاحبه لأن ما يحدث له عقاب من الله، لكنه مع الأسف لم يُعرها أي اهتمام وتمادى في المكابرة حتى خسر أبناءه الثلاثة في حادث سير. أحياناً يَمدُّ الله للظالمِ فينعمُ عليه ويزيدُه من فضله، فيظُنُّ ذلك رضىً من الله وتوفيقاً، فيستمرُّ في ظلمه وطغيانه دون أدنى شعورٍ أو تأنيبٍ للضّمير، غافلاً أن الله يملي للظالم حتى يأخذه أخذ عزيزٍ مقتدرٍ منتقم، وأنَّ دعوة المظلوم لا تردُّ وإن كان كافراً. وفي تدبُّر آيات الله تعالى بلسمٌ للمظلوم وإخمادٌ لنار قلبه، ورغبته في الانتقام لأنه يدرك أن انتقام الله أشد وأشفى غليلاً. ففي هذه الآيات شفاءٌ له ورضى "إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ"، "وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"، "وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍۢ"، "أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ"، "وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ".

فالمتأمل في هذه الآيات وغيرها يمتلئ قلبه إيماناً ويقيناً إن وقع عليه أي ظلم بأن الله حسبه ونصيره ما دام سلاحه (حسبي الله ونعم الوكيل) فلنراجع أنفسنا، ونقيس أفعالنا تجاه الناس على أنفسنا أولاً. نحبّ لهم ما نحبه لأنفسنا، ونكره لهم ما نكره لنا ولا نطيقه، لنقيِّم ذواتنا في نهايةِ مطاف كلِّ يوم كما نحسبُ أمورنا المادية، وخسائرنا وأرباحنا. ولنجرد حسابات أعمالِنا أولاً بأول؛ لنتحاشى ظلم أي أحد حتى نبقى في إطار رحمةِ الله. وإن زللنا فظلمنا فلنسارع لطلب الصَّفح والعفو والمغفرة وإرجاع الحقوق لأصحابها أيّاً كانت، قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال أو بنون، قبل أن نقف على أبواب من ظلمْنا راجين باكين، دون أن تشفع لنا أعمالنا وإن كان لدينا من الحسنات والطّاعاتِ جبال.