شعار قسم مدونات

هل نحن بحاجة حقيقية لإقصاء الدين عن الحياة؟

blogs رمضان

الدِّين لا ينمحي، بل هو باقٍ ما بقي الظمأ الأنطولوجي للفرد، نحو من يُدير كل هذا الإبداع والجمال من حوله، وذلك بُعداً أزلياً من المستحيلِ أن يُطمس بفكرةٍ وفكرتين، فكينونة الفرد لا تكتمل بداخله إلا بإشباع ذلك الظمأ، ذلك أن الأمر يمشي بذات الوتيرة منذُ عصر الإنسان الأول، بل يزداد الظمأ إلى ذلك أكثر فأكثر كلما زادت تعاسة الإنسان واقترب رحيله من الحياة.

من قال إنه يجب أن ينمحي الدِّين – أي دينٍ كان – من كل ملامح حياة الحضارات والشعوب، فهو لا يعي معنى أن يعيش الفرد دون وازعٍ ومرجعية أخلاقية يملأها الضمير الحي، كما لا يعي الفراغ الذي يقف عليه الفرد، كلما نظر مستفهماً إلى السماء وإلى كل ما حوله، ذلك جانب. الجانب الآخر؛ من قال إنه يجب على المجتمعات أن تُنظم طريقة عيشها وفق إجراءات مذهبية بحتة، لا علاقة للعقل في صياغتها وفق حاجته إليها، إلا أن يرى مذهباً ما أنه هو الدِّين والنص الإلهي الذي يحكمها ويسيرها، فهو لا يعي معنى أن تُصادر المذاهب حياة المجتمعات، وتحل محل ما يُنتجه العقل لإدارة حياته البشرية، كما لا يعي خطورة أن يلتقي الاستبداد السياسي بالاستبداد المذهبي، حينها تعود المجتمعات الى صكوك الغفران، وتقبيل العمائم والركب، وعودة الطبقات "الأرستقرادينية" وسفك دماء المجتمعات باسم الدم الأزرق والبطُن المقدس والماء الشريف، وقوله ما أُريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.

الموازنة بين حاجة الفرد للبعد الأنطولوجي للدين وحاجته للدولة التي لا توكل كل شاردة وواردة إلى المذهب الدِّيني ورجال الدِّين، هو أمر لا بد منه، لأنه إذا ما أصبحت كل قضايا المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والمدنية والعلمية

السؤال الذي ينبني على كل ما سبق؛ ما هو الإجراء الذي ينظم العلاقة بين الشكل الوضعي الذي يُدير حياة مجتمع ما، وبين الدِّين الذي يُمثل البُعد الانطولوجي للفرد في مجتمع ما؟ لاحظوا أنني استخدمت في سؤالي كلمة (المجتمع) حينما تكلمت عن الشكل والإجراءات، وحينما استخدمت البُعد الدِّيني قلت (الفرد)، لأن الإجراءات تنطبق على المجتمع ككل، لكن البُعد ديني يخص الفرد في أي مجتمع كان، وقد تشمل المجتمع أحياناً، لكنها في المقامِ الأول تخص الفرد. نعود إلى السؤال، لنعرف ما هو الحد الفاصل بين ظمأ الفرد والمجتمع للدين، وبين حاجة المجتمع لإجراء يُدير به حياته، إجراء يقف على مسافةٍ واحدة من كل الأديان والحقوق والحريات والذوق العام للمجتمع، ويكفل للجميع حقوقهم وحرياتهم. رأى الإسلاميون أنه لا يوجد حدٌ فاصلٌ بين البُعد الدِّيني والشكل الذي تُدار به حياة المجتمعات، وكلاهما كائن واحد مصدره المذهب الدِّيني، وأنه يجب على المجتمعات أن تُدير حياتها وفق ما هو منصوص لديها من ثوابت ومسلمات دينية ومذهبية كما جاءت، فما جاء به الدِّين في نظرها شاملٌ كاملٌ لكل زمان ومكان وفي أي مجتمع كان، بينما رأت العلمانية أنه يجب الفصل بين ما هو ديني وبين ما هو دنيوي، من خلال مجموعة إجراءات تُنظم العلاقة والوسط الذي يلتقي فيه البُعدين، مع الحفاظ على خصائص كل بُعدٍ منهما وعدم ذوبانه في الآخر، تمايزت العلمانية إلى علمانيات، منها ما استند على مرجعيات إلحادية مادية بحتة، ومنها ما استند إلى فلسفة بعض المرجعيات الدِّينية من خلال مجموع القيم والأخلاق والأحكام لذلك الدين.
 

بزغت الحاجة إلى إيجاد إجراء ينظم تلك العلاقة، أبان الاستبداد الدِّيني الذي مورس على المجتمعات الأوروبية، حينما تحول الدِّين إلى مذاهب شتى، فأصبح حكراً في رجال الدِّين والكنائس والأديرة، فظل الدِّين هو الدولة لقرون كثيرة، حتى ما بعد الحركة الإصلاحية التي قادها مارتن لوثر 1546م، إلى أن جاءت الثورة الفرنسية فكانت تلك الحادثة هي الفاعل الأهم في الفصل بينهما. من يظن اليوم أن مجتمعاتنا الإسلامية ليست بحاجة إلى إجراء ينظم العلاقة بين الدِّين والدولة فهو لا يعي الوضع الذي وصلت إليه المجتمعات الإسلامية وخصوصاً العربية منها، ومن تلك الأمور التي تحُث على وجود ذلك الإجراء :

1- انسياق وتبعية الدِّين حسب حاجة الحاكم بما يخدم سياساته، على حساب حقوق وحريات الشعوب وحقها في العيش الكريم.
2- اختزال تفسيرات الدِّين وفق فهم الشيخ والإمام والعلامة، وتكفير أي رأي أو فكر يأتي بخلافهما، أو يطرحهما برؤية جديدة.
3- استغلال المناصب والواجهات الدِّينية في سبيل مكاسب اجتماعية تُسطير على المجتمعات تحت فزاعة أعداء الدِّين، تبث الإرهاب الفكري والعنف والتشدد.
4-اعتماد المذاهب على كمية كبيرة من المغالطات والخزعبلات الدِّينية، وعدم طرح تلك المسلمات ومحاكمتها أمام العقل.
5- تعدد العرقيات والإثنيات التي تدين بأكثر من دين ولديها مسلمات وثوابت مغايرة للدين الإسلامي، بما يستوجب إيجاد مظلة عامة تستظل بها كافة المعتقدات، وتنعم بذات الحقوق والحريات تحتها.
6- وضع حد لحالة التشدد والتطرف الفكري الذي تنتجه مسلمات وأفكار في الموروث المذهبي.
7- قطع الطريق أمام من يدعون أنهم أبناء الرسول وآله، أو يرون أن لهم حق الاصطفاء على الناس، أو لهم العرقية المميزة دون الناس، أو المكانة الرفيعة دون الناس، أو الوجاهة القبلية العليا دون الناس، أو حق التكلم في الدِّين دون الناس.

ختاماً: الموازنة بين حاجة الفرد للبعد الأنطولوجي للدين وحاجته للدولة التي لا توكل كل شاردة وواردة إلى المذهب الدِّيني ورجال الدِّين، هو أمر لا بد منه، لأنه إذا ما أصبحت كل قضايا المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والمدنية والعلمية والعلاقات الدولية والقانون المدني والدولي والحريات والحقوق، إذا ما أصبح كل ذلك يحكمه المذهب والدِّين، مقصي بذلك دور العقل في تسيير معاشه، عندها سيتداخل ما هو وضعي بما هو ديني، ومع ذلك أيضاً تتداخل المعتقدات والمسلمات وتتقاطع فيما بينها، فتبدأ مرحلة الاستقطاب والتمترس خلف المذهب و الدِّين، ومن هنا يبدأ ما ذكرناه سابقاً الاستبداد الدِّيني، والأمر ذاته بالنسبة لمجتمعاتنا الإسلامية، إذا ما أقصي الدِّين بالكلية من حياة الشعوب، يصبح الأمر استبداد سياسي أو عسكري أو علماني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.