شعار قسم مدونات

مُوسى والخَضِر.. من أَعْلَمُ النَّاسِ؟

blogs تأمل

إنّ المتأمّل لقصّة سيّدنا موسى سيقفُ مشدوهًا أمامها، ففي كل مرة ستجدُ نفسك في مواجهة كمّ هائلٍ وزخمٍ من المواقف والعبر المدفونةِ في خباياها، وفي كلّ مرّةٍ تقرؤها تقول في نفسك؛ تلك هي الحِكمة وذلك هو مربطُ الفرس، فالنفس مجبولةٌ على التأسّي بغيرها، والاعتبار بما يحدث لمن حولها، ولابدّ أن يجد المؤمنُ وكل باحثٍ عن الحقّ ضالته في القصص القرآني عامّةً، وفي هذه القصّة خاصّةً.  فميل الناس إلى القصص فطريٌّ، وهو ميلٌ شديدٌ قوي؛ لذلك فقد عُنِيَ القرآن الكريم عناية كبيرة بالقصص، وقد حدّد المغزى منها، فقال تعالى: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ"، [يوسف:111].

 

وقد تفردتْ سورة الكهف من بين سور القرآن الكريم بِذلك اللقاء الذي لم يتكرَّر لا في مثل شخوصه، ولا في مثل أحداثه، ولا في مثل مناسبته، لقاءُ سيّدنا موسى والخَضِر! لقاءٌ كان سببُه كما رُوي عن الرّسول -صلى الله عليه وسلّم-في قوله: “قَامَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فقال: أنا أَعلَمُ. قال: فَعَتَبَ اللّه عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ؛ فَأَوْحَى اللّه إِلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ”. رواه البخاري.

 

(أنا)، هي إجابة حسبها سيّدنا موسى صائبةً نظرًا للقرائن والميزات المتوفرة فيه، حيثُ كان رسولاً من أولي العزم، وكليمُ الله تعالى، وصاحب معجزاتٍ عديدة لم تكن للرسل والأنبياء من قبله، وصاحب كتابٍ مُنزّل فيه الكثير من التوجيهات الربانيّة وهو العلم الذي لم يكن لمن قبله، لكنّه أخطأ الإجابة، فالعالم لا يجوز له الجزم في علمه، مهما كانت درجته ونوعيّة شخصيّته، لأن العلم نسبيٌّ ويتفاوت فيه الناس، ثمّ إن لكلّ واحدٍ نوع من العلم ما قد يتميز به عن الآخرين، ولا ضير في هذا ما دام هناك تكامل وتعاون وملء للثغرات.

 

كان علم الخَضِر علم معرفة بواطن أمورٍ قد أوحيت إليه، وهو أشبهُ بـ (القدر) الخفيّ؛ الذي يفسر ما وراء الأحداث، وكان علم موسى علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم، فكان بذلك (الشريعة) الواجبة الاتباع

رغم هذا التكليف الإلهي بالاتباع، إلاّ أنّه لا يعني أن الخَضِر كان أعلم من سيّدنا موسى -عليه السّلام-، فقد قال له لما نقر عصفورٌ من ماء البحر، فيما ورد عن النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام-: "…فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي الْبَحْر، فَقَالَ الْخَضِر: يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِي الْبَحْرِ…"، بل لما قال له موسى -عليه السلام-: جئتُ أتعلَّمُ منك، قال: أما يكفيك أنّ الله كتب لكَ التوراة بيده!

 

إذاً: الخَضِر -عليه السلام- إنّما هو أعلم من سيّدنا موسى بهذه الجزئيّة فقط، أمّا أنه أعلم منهُ بكافة الجزئيات الأخرى، فلا. فقد كان علم الخَضِر علم معرفة بواطن أمورٍ قد أوحيت إليه، وهو أشبهُ بـ (القدر) الخفيّ؛ الذي يفسر ما وراء الأحداث من الحكم والأسرار الربانية، وكان علم موسى علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم، فكان بذلك (الشريعة) الواجبة الاتباع، إذن فالخَضِر أعلم من موسى بأحكام وقائع مفصلةٍ معيّنة لا مطلقًا.

 

وإن تأمّلنا مواقفَ قصّة سيّدنا موسى مع الخَضِر، فكلُّ منّا سيلهمه الله إجابات عن أسئلةٍ تليدةٍ تُعييه، لأحداث مشابهة لها قد عاشها ولو بشيءٍ قليل، سيقرؤها كلُّ منّا بطريقةٍ مُختلفة، فيطمئنّ قلبهُ وتهدأ نفسُه، ومع كلّ هذا يظل العقل عاجزًا على استنباطِ أسرار ومقاصد أخرى لا تبدو لأوّل وهلة، وربما يتأخر فهمها لسنواتٍ، ويظل المرء غير قادرٍ على تفسير بعض التفصيلات الخفية وراء الأحداث المؤلمة وقت حدوثها. فمثلاً:

 

أَمَّا السَّفِينَةُ: ممّا لا شكّ فيه، أنّ بعضُ فتراتِ العُمر مليئةٌ بالابتلاءات، تُشبه تلك السّفينة التي صعد إليها الخَضِر، وأخذ يكسرُ منها ألواحًا، كي يَعيبها في عَيْنِ الملك الذي يأخذ كل سفينةٍ غصبًا. هذه الابتلاءات، ظاهرُها وحشيٌّ، تقوم بها يدُ اللطيف الخبِير، كي تُحافظ على قلبكَ وروحك حيًّا، وحينما تصل إلى البرِّ، يُصبح كلّ شيءٍ لك، تُصبح أنت الملك… أحداثٌ في ظاهرها مضرة، لكن باطنُها فيه رحمَة! فكم من مصيبة -صغيرة كانت أو كبيرة- نتعرض لها فنسارع إلى الحزن والأسى، بل كم من أمر يُخالف أهواءنا وعقولنا يمر أمامنا، فلا نرى سوى جانبه السلبي الآني والظاهر، ثمّ عندما تنجلي الحكمة منه، نقفُ مشدوهين ومندهشين، وقد اعترانا الندم والخجل من الله ومن أنفسنا.

 

لقد أخطأنا البحث عن
لقد أخطأنا البحث عن "عين الحياة". فالخلودُ هو لكلِّ من يغترفُ من عِلم الله فيخطو إليه خُطوة، وهذا ما علّمه الخَضِر لسيّدنَا موسى في رحلته نحو الحق
 

علينا أن نتعلم من هذه القصّة، كيف نتمالك أنفسنا عند الصّدمة الأولى، وكيف نتسلّح بالصّبر على المجهول والمخبوء فالحياة ليست دائمًا موافقة لأهوائنا ورغباتنا، بل بالعكس تماماً، فنادرًا ما تأتي الأمور بما نشتهيه، يقول الدّكتور سلمان العودة -فكّ الله أسره- في هذه القصّة: "قصّة موسى والخَضِر، درسٌ في الصّبر وطول النفس، لكنّ أكثر الناس لا يصبرُ على ما لم يُحط به خبرا". وهو اليوم قابعٌ في سجون الظّلم، يواجهُ أعظم الابتلاءات في حياته، 37 تُهمة أبرزها تغريدةٌ له قال فيها: "ربّنا لك الحمدُ لا نُحصي ثناءً عليك أنتَ كما أثنيتَ على نفسك… اللهم ألّف بين قلوبهم لما فيه خير شُعوبهم"، تقتضِي مُطالبة بالإعدام تعزيرًا! فأيُّ دركٍ من الإجرام والانحطاط الأخلاقيّ بلغه هذا النّظام؟! فحينما يكُونُ مفكّرٌ مُصلحٌ، وداعية للسّلم مثله عُرضةً لهكذا حُكمٍ دون وجود منظّمات تصُون الحقوق والحريّات، فالأكيد أن المجتمع كله يغدُو مهددًا بالاصطلام ويصبحُ التغيير والإصلاح ضرورة حتمية قبل غرق السّفينة. علينا في موجة الابتلاءات هذه، أن نتكوَّر على شُعلة الإيمان والوعي في قلوبِنَا، وألا نفلتهُما أبدًا، ألا نتركها تخفت، وألا نفقِد الثقة بهما أبدًا… اعلم أنّك يوم تفقدُ وعيك وإيمانك، ستُهزمُ، هُما كلُّ المعركة!

 

وَأَمَّا الْغُلَامُ: ومن الأحلامِ في حياتِنَا بداياتُها كغلامٍ بريء لا يبدو في حاضره ومظهره أنّه يستحقُّ القتل، نركُض خلفها ونمنحُ قلوبنا وعقولنا قربانًا لتكون كما نُريد، نسعدُ ونحنُ نراها تكبُر وتظهر معالمُها، ثمّ فجأة يمنعُها الله عنّا، فنيأسُ ويتلاشى إيماننا وننثُر سواد اليأس من حولنا ونقنط. الله لم يخبر والدا الغُلامِ أنّهُ سيملأ حياتهُما طغيانًا وكفرًا، لكنّهُ أخبرنَا نحن بذلك، لنعلم فنتعلّم ولنُسقط هكذا مواقف على مصائب تعترضُنا فتسرق منّا الفرحة قبل أن تكتمل، وعليه ينبغي أن نستسلم لقدر الله وحكمه في كل الأمور التي تصيبنا. فالله سبحانه لا يفعل إلا خيرًا وإن كان ظاهر هذا الأمر شرًا في أعيننا القاصرة، فلو أرَاد أن يَكشِف عنّا الغِطَاء، لخلعْتَ عقُولنَا خلعاً من هولِ كلّ تلكَ الأحلامِ البائسة التي ركضنا خلفَها.

 

وَأَمَّا الْجِدَارُ: بعض الحُبّ لله كنزٌ، يدفنه الله تحت جدار من الزمن… لغلامين يتيمين في مدينة الدنيا!، أحبّ لله وفي الله، ودعِ الله يدفع أثمانَ حبّك، لقريبٍ منك، وحتى لمن لا تعرفه!  تأمّل قوله تعالى: "وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا"، كلمة أبوهُما وليس هُما!، "وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا"، تأمل كلمة لهُمَا: فأصل المحبّة أبيهما، لكن إحدى ثماره كانت "لهُمَا"!، والرزق قد يكون مالاً حلالاً، وقد يكون علمًا نافعًا، وقد يكون ذرية صالحة، وفي كل الأحوال فهو محفوظٌ من قبل الله عز وجل ومضمونٌ حينما يتوفر شرط الصّلاح. هكذا هي حياتُنا، عطبٌ مُفتعل قد يُنجي سفينة حياتِك من غرقٍ محتوم، حُلمٌ يموتُ في بداية الطّريق بقدرٍ وهو جميلٌ عظيمٌ في نظرك، كنزُ محبّةٍ في الله وضعتهُ في قلبك لآخرين لأجلٍ، يحفظُه الله فينالهُ عنك قريبٌ أو بعيد، "وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ"، [يوسف:21].

 

إنّنا ببساطة، أخطأنا البحث عن "عين الحياة". فالخلودُ هو لكلِّ من يغترفُ من عِلم الله فيخطو إليه خُطوة، وهذا ما علّمه الخَضِر لسيّدنَا موسى في رحلته نحو الحق. ألا ترى أنّ سيّدنا موسى ترك نبع الحياة الذي قفزت فيه تلك السّمكة بعد أن أصابها قطرات منه؟ لم يكن موسى –عليه السّلام- يطلب شيئاً، سوى شربة قليلة من كأس علم الله الذي يغترف منه كلّ باحثٍ مُتعطّش.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان