"الخير في الناس مصنوع إذا جبروا، والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا"، هكذا قال الشاعر اللبناني جبران خليل جبران في مطلع قصيدته "المواكب"، ليؤكد على حقيقة مفادها أن الأصل في الإنسان هو الشر، أما الخير فلا يقوم به الإنسان إلا عندما يبتغي من وراءه مصلحة ما. وفي نفس السياق يذهب الكاتب المغربي طارق بكاري في روايته مرايا الجنرال، ليؤكد بدوره على أن الشر متأصل في الإنسان، وكتب يقول: "الشر فطرة والخير استثناء الوديعين". أما أبو حيان التوحيدي فيرى أن الإنسان مزيج من الخير والشر، لكن الواقع يؤكد على أن الغلبة تعود للشر غالبا، إذ يضطر الإنسان لتهدئة هذا الشر، لكنه قلما يفلح في ذلك، فيتضح حينئذ مدى الشر الذي يسكن هذا الكائن. أما جان جاك روسو فيذهب إلى اعتبار أن لا شر في الكون إلا ما يفعله الإنسان، ليعطي بذلك دليلا قويا على أن كل الشرور التي توجد في هذا الكون مصدرها الإنسان.
انطلقت من هذه الأقوال التي تؤيد مسألة كون الإنسان شرير بطبعه، لكي أؤكد على أن الإنسان محكوم بالشر، والحقيقة أنه كذلك، والواقع أيضا يؤكد على هذه المسألة، ذلك أن هناك مجموعة من المؤشرات تشكل طبيعة الإنسان، هذه المؤشرات تجعل الإنسان مستسلما لملكة الشر لديه. إذ يتجلى الشر في العديد من الأمور التي تخص الإنسان، ويبقى أبرزها وأقلها درجة هو فعل الحسد، ووجود هذا الفعل في الإنسان يؤكد على أنه شرير، لأنه من خلال هذا الفعل يصير الإنسان غير محب للخير، وفي المقابل يصبح حاسدا للآخر، إذ يحسده على أية إضافة تتجلى فيه، وما هذا الحسد إلا شر نابع من الإنسان يمنعه من محبة الخير للآخر، رغم أن هذا الحسد لن يتضرر منه الآخر في جميع الأحوال، بل المتضرر الأبرز من ذلك هو الشخص الحاسد، إذ يغذي من خلاله ذلك الشر القابع فيه.
الواقع الأقرب إلى الواقع هو أن الشر متأصل في الإنسان، ولم يكن يوما خيرا بطبعه، لأن طبعه الأناني ومصالحه هي التي تدفع به إلى مصاف الشر |
عندما نتحدث عن الشر، فإننا نتحدث عن صفة بارزة في الإنسان، وهي الصفة التي يضطر لإخفائها لمسايرة طبعه الاجتماعي، لأنه مضطر لتهدئة هذا الشر وسط هذه الجماعة، ولا يظهره إلا في الحالات التي يتعرض فيها للاستفزاز أو ما شابه، أو عندما يتعرض للظلم، كما أنه أحيانا لا يحتاج إلى سبب كي يمارس شره بكل ما ملك من عنفوان، بل إن أنانيته ومصالحه الشخصية ستدفعه إلى إتيان فعل الشر، ومن هاتين الزاويتين يتضح أن الشر في الناس لا يفنى وإن قبروا، في الحالة التي يتعرض فيها لسبب ما يدفعه إلى فعل الشر، وفي الحالة التي يبتغي فيه مصلحته الشخصية.
لعل الانطلاق من مجتمعنا المغربي لتسليط الضوء على الأفراد في هذا المجتمع، ولمعرفة مدى الشر القابع فيهم، الانطلاق من هذا النموذج يفضي إلى نتيجة واحدة وهي أن البشر في مجتمعنا قريبون من الشر أكثر منه إلى الخير، وما الخير الذي يظهرونه إلا نفاقا يصبغونه به من أجل إظهار مزاياهم أو من أجل اكتساب مصالحهم، والبشر في هذا المجتمع لا يتوفرون على الصفات التي من شأنها أن تزيح عنهم ولو قليلا مسألة كونهم أشرار، لأنهم بكل بساطة يظهرون محبتهم للخير، وفي المقابل يأتون الشر بكل ما ملكوا من أسباب.
إذا كان هناك من يعتبر أن الإنسان بطبعه خيّر، والمجتمع هو الذي أفسده، كما ذهب في ذلك جان جاك روسو، فقد يبدو ذلك كذلك، لكن الواقع الأقرب إلى الواقع هو أن الشر متأصل في الإنسان، ولم يكن يوما خيرا بطبعه، لأن طبعه الأناني ومصالحه هي التي تدفع به إلى مصاف الشر، ويتضاعف هذا الشر عندما يصبح هذا الفرد قادرا على اخفائه وإظهار العكس، كما أنه قادر على ممارسة كل شيء من أجل كل شيء، ورغم تشبته ببعض المبادئ إلا أن الشر القابع فيه يدفعه للتنازل عن هذا التشبث، كل ذلك من أجل أنانيته ومصلحته.
إن الإنسان يضمر الشر ويظهر الخير، ودافعه نحو الشر أكبر من دافعه نحو الخير، وحتى إتيانه للخير ليس سوى من أجل مصلحته، ومن ثم يصبح هذا الخير شرا في الأصل، لأن إتيان الخير يجب أن يكون حبا فيه، أما إتيانه من أجل مصلحة أو الظهور بمظهر الخير فذلك شر في حد ذاته، وهكذا يتضح أن البشر لا يبالون بالخير، بل ما يهمهم هو مصالحهم، ومن أجل ذلك ينافقون ويسرقون ويظلمون ويقتلون ويغتصبون ويحتقرون، كل ذلك يؤكد على مسألة أن الإنسان بطبعه شرير، وأن الخير لم يعد خيرا ما دام محكوما بالشر.
إن ما جعل هوبز يعتبر الإنسان ذئب لأخيه الإنسان هو هذا الشر القابع في هذا الكائن المعقد، هذا الشر يمكن أن يجعل الإنسان يفترس حتى أقرب الناس إليه، إذ تبقى مصلحته وأنانيته هي الدافع الأكبر الذي يحفزه لممارسة الشر، ومن أجل ذلك يمكن أن يرتكب كل الممكنات، وقد يؤنبه ضميره بعد ذلك، وما نفع التأنيب بعد أن يكون فعل الشر أتى أكله. ولعل قدرة الإنسان على التحايل والتصنع والنفاق هي التي تؤكد فعلا أنه كائن شرير بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فأن يستطيع هذا الكائن إظهار شخصية ملائمة بينما حقيقته مريرة، فذلك بمثابة دليل يثبت تهمة الشر على هذا الكائن.
مهما فعل الإنسان لكي يظهر بمظهر مقبول وخير، ومهما أبدى من رغبة جامحة في فعل الخير، إلا أن حقيقته ليست كذلك، وحقيقته هي عكس ما يظهره، وهذا الأمر نشهده في واقعنا دائما، هؤلاء البشر مستعدون لممارسة كل أنواع الشرور إذا كانت لهم مصلحة في ذلك، ومن أجل ذلك يمكن أن يخونوا حتى أقرب الناس إليهم، ومن أجل ذلك يمكن أن ينافقوا، ويمكن أن يسرقوا، ويمكن أن يتلاعبوا بمشاعر الآخرين، وكل هذه الأفعال خاصة بالإنسان وحده، وهو الذي يتقنها جيدا، ويعتمد عليها من أجل مصالحه، ولأن الأولوية بالنسبة له هو مصالحه، كان طبيعيا أن يكون مستعدا لممارسة الشر وكل الممكنات فيه من أجل حصوله على هذه المصالح، وإذا كان الحال كذلك، فطبيعي أن يكون هذا الإنسان شريرا بطبعه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.