شعار قسم مدونات

هل ثمن "لا" مكلف إلى هذه الدرجة؟

مدونات - تركيا2

ناضل الأجداد والآباء من أجل الاستقلال ليستقلوا بأوطانهم من براثن المستعمر وسخطه وهيمنته العسكرية وتحكمه بكافة مفاصل الدولة؛ لملم المستعمر جحافله ورحل عن أوطاننا بعد أن أوغلنا به وأجبرناه على الانسحاب ونيل الاستقلال رغماً عن أنفه وجبروته، ولكن هل استسلم المستعمر بهذه البساطة ومنحنا حق التصرف بثرواتنا والتحكم بقراراتنا المستقبلية في قيادة دولنا نحو النجاح والتنمية المستدامة؛ هل سألنا أنفسنا حينها تلك الأسئلة أم أننا كنا حمقى نتغنى بانتصاراتنا وبطولاتنا ونسينا حينها أن المعركة بيننا وبينهم لم تنتهي بعد ولن تنتهي. ماذا فعل الغرب إذن؟

حاول المستعمرون بعد أن منحونا ذلك الاستقلال المزيف في التحكم بمصادر القرار في دولنا والسيطرة على السلطة من خلال إيصال نخب سياسية إلى سدة الحكم يدفعون لها المال ويبذلون الغالي والنفيس لفوزها بانتخابات مزورة أو بانقلابات عسكرية يطلقون عليها ثورات. يمولوها بأموال طائلة ويلمعون أبطالها ليسيطروا على مفاصل الدولة مرة أخرى ويصبح استقلالنا مجرد كذبة ووهم آمنا به وصدقناه. هذا ما يعيشه عالمنا العربي منذ استقلال دوله، فجميع نخبه السياسية تنتظر أوامرها من الخارج فهي غير حرة ومستقلة في قرارها وعندما حاولت إحدى الدول الاستقلال بقرارها الاقتصادي والسياسي ماذا حدث؟ غزاها الغرب سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وحولوها إلى دولة فاشلة بعد أن كانت دولة لها ذاك الوزن الثقيل في الشرق الأوسط وتمتلك الجيش الرابع في العالم. الأمر لم يكن يختلف كثيراً في الشرق الآسيوي في دول تحررت من الاستعمار، مثل ماليزيا وسنغافورة وتايوان والتي أطلق عليها دول النمور الآسيوية بعد أن حققت ناجحاً اقتصاديا وتنموياً مذهلاً وغير مسبوق وتحولت من دول تعتمد على الاستيراد والاستهلاك إلى دول صناعية مصدرة تتحرر شيئاً فشيئاً من الهيمنة الغربية، وتحقق نمواً اقتصادياً لم تحققه اقتصادات أوروبا في عصر الثورة الصناعية. وهذا ما أقلق الغرب وعمد إلى سحب استثماراته من هذه الدول لضرب اقتصاداتها، وشراء الدولار من أسواق تلك الدول الناشئة مهما بلغ ثمنه حتى تنهار عملاتهم الوطنية.

وقد حدث ذلك في تموز عام 1997 عندها خرج عراب النهضة الماليزية صاب جم غضبه ضد الغرب قائلا (ما صنعناه خلال عشرين عاماً خسرناه خلال ستة أشهر). انهارت العملات في شرق آسيا وخسرت أكثر من نصف قيمتها وتداعيات الشركات وتباطئ النمو وانخفض التمويل لمشاريع البنى التحتية التي كانت قيد التنفيذ. كل ما يفعله الغرب كان لجلب تلك الدول لحظيرة الطاعة والاستجابة إلى إيعازاتها في اتخاذ القرارات وعودة هيمنتها عليها. حصل كل ذلك وأكثر ناهيك عن المظاهرات التي اندلعت ضد الحكومات والفوضى ومظاهر الفقر التي بدأت ملامحها ترتسم؛ فقط لأن تلك الدول أرادت التحرر والاستقلال في قرارها عن الغرب وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها. كان صيف عاصف جعل تلك النمور عبارة عن قطط لم تملك حتى مخالب لكي تدافع عن نفسها تبحث عن مؤسسات النقد الدولية للاقتراض منها وترضخ لشروطها ويستعيد الغرب لسلطة قراره في تلك الدول. وهكذا لم يسمح الغرب بظهور قوة اقتصادية مستقلة في قرارها دون أن يفرض سيطرتها عليها، إلا أن هناك نمر اقتصادي بدأ يتراءى للجميع مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بقيادة أردوغان لم يكترث الغرب لنمر ورث دولة متهالكة ومفلسة لا تملك من حيلتها أي شيء دولة أتعبتها التبعية للغير، لا تثير الغرب ولا تغريه والخصخصة شعاراً لها. لكن هذا النمر أي تركيا أخذت بالنمو المطرد والسريع وتدفقت الاستثمارات نحوها من كل حدب وصوب. حيث ارتفعت الصادرات وبلغت 150 مليار دولار وشكلت عائدات السياحة حوالي 30 مليار دولار، وازدهر القطاع الصناعي وحققت نمواً اقتصادياً ملفت للنظر لتقترب من الصين والهند الدول الأكثر نمواً في العالم.

الشعب التركي كان له كلمة الفيصل في إسقاط الانقلاب ودحره بعد دعوة أردوغان له بالنزول إلى الشوارع لإيقاف عناصر غولن من تحقيق أهدافهم بإسقاط الوطن وعودته لحظيرة الغرب وإفشال الحركة التنموية التي تعيشها تركيا .

خلال فترة قصيرة استطاعت أن تسدد تركيا ديونها لصندوق النقد والتي بلغت 23 مليار دولار وتضاعف دخل الفرد ثلاثة أضعاف ليبلغ الـ11 ألف دولار في العام كما بلغ الناتج القومي 850 مليار بعد أن كان 232 مليار دولار ودخلت عالم العشرين واحتلت المرتبة 17 بين العشرين الأقوى اقتصاديا في العالم. هنا بدأت علامات التعجب توضع وبدت التساؤلات تثار، كيف لدولة محاطة بدول تعاني من ويلات الحروب والدمار أن تحقق ذلك النجاح الاقتصادي وسرعة النمو الهائلة، بدت تركيا نمراً آسيوياً وأوروبياً لا يمكن إيقافه ولا يمكن وقف جماحه. هنا حاول الغرب إيقاف هذا النمر الاقتصادي الذي بدأ يهددها بمشاريعه العملاقة واقتصاده الناشئ عن طريق إيقاعها بصدام مباشر مع روسيا بعد أن أسقطت تركيا طائرة روسية في نهاية عام 2015 اخترقت أجوائها بعد دفع الولايات المتحدة لها بذلك، وأنها ستتدخل فوراً في حال نشب الصدام لكنها سرعان ما تخلت عن حليفتها الاستراتيجية بعد إسقاط الطائرة. ونجحت تركيا بعدم الوقوع في الفخ التي رسمته واشنطن لها، بل على النقيض من ذلك استطاعت أن تكسب روسيا كحليف استراتيجي واقتصادي مهم في المنطقة، ولم ينجح الغرب بالإيقاع بذاك النمر. إلى أن أطلت ليلة الخامس عشر من تموز من عام 2016 الليلة التي خططت لها الولايات المتحدة لإسقاط النظام التركي وتجربته التنموية، كانت ليلة دامية حاول به الغرب الإمساك بمقاليد الحكم في تركيا عن طريق عملائها من جماعة تنظيم غولن الإرهابي في الجيش والأمن. لكن الشعب التركي كان له كلمة الفيصل في إسقاط الانقلاب ودحره بعد دعوة أردوغان له بالنزول إلى الشوارع لإيقاف عناصر غولن من تحقيق أهدافهم بإسقاط الوطن وعودته لحظيرة الغرب وإفشال الحركة التنموية التي تعيشها تركيا.

هنا بدا الغرب عاجز ومحبط عن إسقاط النهضة التنموية التي تعيشها تركيا منذ سنوات بعد فشل الانقلاب التي دعمته أمريكا وأوروبا. ولا بد من التفكير جدياً مرة أخرى للتعامل مع هذا النمر الرافض للاستسلام والمنطلق نحو أهدافه بأن يكون بين العشر الكبار اقتصاديا؛ فالورقة الكردية حاضرة وسيكون الدعم التي تقدمه الولايات المتحدة إلى جانب ألمانيا، كافياً لإعاقة ذاك النمر وإبعاده عن أهدافه وإرضاخه للاستسلام. لكن تركيا استطاعت بالتعاون مع الدب الروسي على تأمين حدودها من الوحدات الكردية بعملية غصن الزيتون والتدخل في عفرين دون أن تقع في المستنقع السوري والذي أرادت لها الولايات المتحدة ذلك لكنه لم يكن؛ جميع الحروب السياسية والعسكرية عن طريق عملاء الغرب في الداخل لم تفلح في إسقاط التجربة التنموية في تركيا. لذا كان لا بد من الحرب الاقتصادية، فهي الخيار الأمثل وقد نجح ذاك الخيار ضد النمور الآسيوية في شرق آسيا في تموز من عام 1997 ولا بد من تكراره في آسيا الوسطى أي في تركيا التي استيقظت صباح يوم الجمعة في الثامن من آب لتجد نفسها محاطة بعقوبات أمريكية أفقدت عملتها الوطنية في يوم واحد 20 بالمئة لتتهاوى في صباح الاثنين وتفقد حوالي الـ40 بالمئة من قيمتها.

وهنا قرع ناقوس الخطر وبدت المعجزة التركية مهددة بالاندثار وباتت أحلام عام 2023 وهم لا يمكن الوصول له. هرع الساسة الأتراك لوقف النزيف الحاد التي تتعرض لها الليرة باتخاذ مجموعة من الإجراءات أهمها تحقيق السيولة من العملات الصعبة ودعوة الشعب التركي إلى بيع الذهب والدولار والحد من تداوله مقابل الليرة وفرض ضريبة الجمرك على الصادرات الأمريكية القادمة إلى تركيا. وذلك لتحقق نصف مليار دولار من العملة الصعبة جراء تلك الضريبة، وتبدأ الليرة بالانتعاش والخروج من الحلقة الضيقة أمام الدولار، وتأتي حزمة الاستثمارات القطرية بقيمة 15 مليار دولار في الاقتصاد التركي. وتكون بمثابة صمام أمان للمستثمرين الأجانب ناهيك عن نية أنقرة بالتعامل بعملتها الوطنية في معاملات الاستيراد مع حلفائها الاستراتيجيين في دول البريكس، لتوقف نزيف الليرة رغم التهديدات الأمريكية بعقوبات أشد إذا لم تفرج عن قسها المحتجز لدى أنقرة. وهنا جميع الأسئلة تطرح نفسها، لماذا تتمسك واشنطن بالإفراج عن القس كشرط لإلغاء العقوبات دون شروط؟ وهل هو الحجة التي تضعها واشنطن كشرط للتخلي عن حلمها التنموي ومشاريعها العملاقة كقناة اسطنبول والمطار الأكبر في العالم وإلغاء صفقة صواريخ الإس 400 التي تبرمها مع موسكو والتي تشكل تهديداً لواشنطن وعزوف أنقرة عن شراء طائرات الإف 35 دون إكتراث بعد تعنت واشنطن في التسليم؟ هل غدت تركيا تشكل ذلك التهديد التي تخشاه واشنطن وحلفائها ولا بد من تأديبها بحرب اقتصادية تعيدها إلى ملعب الغرب وإعلان الولاء المطلق لهم؟ هل ثمن لا مكلف إلى هذه الدرجة لتتخلى تركيا عن مشروعها النهضوي وعن نضال عمره عقدين في التنمية الاقتصادية وعن نجاحات مذهلة ربما تفقدها بين لحظة وأخرى؟ حقا لا أدري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.