شعار قسم مدونات

حينما غسلت الأطباق وشرقيتي معا!

blogs غسيل الأطباق

أطلت أمي كإحدى تجليات الرب وأكثرها قداسة كشمس بعد شتاء طويل فأضاءت وحشة الكون بمحياها الهادئ ولحن صوتها الرقيق جالت جنبات البيت تنشر سحرها الأمومي فوق أطرافه المتشعبة وجنباته الفسيحة تارة هنا وتارة هناك تغسل حينا هنا وتمسح حينا هناك تعد ما لذ وطاب بين طلباتنا التي لا تنتهي واختلافاتنا التي لا تعد فتوفق بينها لتعد لكل منا ما أحب بينما لا تفارق تلك الابتسامة محياها الصبوح برغم ما كانت تعانيه من التعب والجهد وهي تقوم بتلك المهام العديدة في آن واحد تعاونها أختي في تلك المهمة الشاقة بتسيير حياتنا وقضاء حوائجنا بينما نطالع أنا واخوتي الأمر برمته من بعيد.

وبرغم مساعداتنا التي لا كانت لا ترتقي لأن تسمى مساعدة بالمعنى الحرفي واقتصرت على ما يطلب منا تارة وما نقوم به في خارج المنزل بل قد تبدو علينا بعض حالات التذمر من كثر ما نعانيه من مشاق ومعاناة في تلك المشاوير وتلك المهام المتقطعة والموكلة إلينا من وقت إلى أخر. نظرة وإن كنت أخجل منها الآن إلا أنها كانت نابعة من شرقيتي المتوارثة والتي لا يمد له الدين بأي صلة ولا بأي رابط من الروابط كما يشير البعض ويوضح ضاربا مكتفيا بما أرى أنه وكما قسمتها في ذلك الوقت إلى عمل رجالي يتضمن ما أقوم به وعمل نسائي بحت مختص بالمنزل ودواخله.

نظرة تغيرت وتبدلت بمجرد أن حلت قدمي في تلك البقعة البعيدة عن والدتي وفيضها المعطاء بغير حدود ولا يكيله أي ميزان ولا مقياس لأتذوق وأكابد بالإضافة للهيب البعد والتغرب بعيدا عن دفئ الأسرة الحاني وعطف الأم الجارف وسند الأب وحكمته المنشودة لكن الألم الأكبر الذي اجتاح دواخلي والضيق الأكبر الذي أطبق علي كان منبعه مختلفا تماما نابعا من خجلي الشديد وأنا أحاول عاجزا عن الإتيان ببضع ما كانت تأتي به أمي يوميا على مدار السنين السابقات من عمري بتفان وإخلاص حتى بدى لي وأنا الجاهل حينها أن الأمر لم يكن بتلك الصعوبة ولا تلك المكابدة. ظن تبدد مع أول لحظة امتحان فضحت أثرها عورة شرقيتي التي لطالما تبجحت بها ليغلفني عار الخجل ويزكمني عبق الندامة المزعج.

 

تربينا في مجتمع معاق المشاعر إن تعلق الرجل بأمه برا فهو ابن أمه المدلل وإن مد يد العون إلى زوجته يوما فهو ضعيف الشخصية رخو وإن أحب زوجته واستوصى بها خيرا فهو مسحور مغمض العينين

يقول المهندس دان ويكلكس: "لا يهمني كم هو فقر الرجل إذا كان لديه عائلة فإنه غني"، تجربة احالت ناظري وكشفت عن عجز فظيع ارتأيت أن اغيره بمجرد عودتي إلى ربوع الأسرة الكبيرة وحضن الأم العطوف فأبذل يد العون قبل أن تطلب واجود ببعض من الفيض المنساب من نبع الأم المعطاء وأمرغ يدي الشرقيتين فيما كنت أعتبره شأنا أنثويا بحتا لتكابد صاغرة الكرم الأنثوي والنعمة المتمثلة في تفاني أمي الغير مشروط وعون أختي الذي لم يشتكي يوما ولم يجاهر بالتندر.

تجربة بسيطة قررت أن أنزلها على أرض الواقع محاولا تجريد نفسي من عنجهيتها لأقرر في ذلك اليوم الولوج إلى مكان كنت اعتبره مملكة النساء التي لا يرضين فيها المنازعة ولا المزاحمة لأندس يومها بعد زيارة حشد ثقيل من الضيوف والزوار ويوم عصيب قد قضته يلفح وجهها الصابر لهيب النيران وتدمي أقدامها الطاهرة الآم الوقوف التي ما كنت لأقوى على أن أبارحها ولا أقاسيها لينتهي اليوم بأمي المنهكة وجسدها الطاهر المرهق أقرر أثره في ذلك اليوم أن أغسل شرقيتي القديمة بمساحيق الغسيل وأنظف نفسي المتعالية بماء الشتاء البارد لتعود نفسي بيضاء كما تلك الأطباق التي قضيت الليل أكابد أعاجلها حتى أنهيتها في وقت وافر وجهد لطالما كان تقاسيه ابتسامتها الصابرة بلا جزع ولا اعتراض.

وقفت أطالع ما صنعت في غبطة كبيرة وسرور عظيمين ولا أخفيكم القول أنني في ذلك اليوم لم أستطع النوم منتظرا ما ستبدو ردة فعلها على صنيعي. في الحقيقة لا تسعفني نفسي عن شرح تلك النظرة التي علت محيا أمي الصبوح ولا عن تلك النظرة التي رمقتني بها وأنا أطالعها من خلف ستار وفيض سعادتها التي عم المكان فيض من السعادة وإن كنت أتوقع بعض منه إلا أنني وبأي شكل من الأشكال لم أكن أتخيل حجم الاستقبال البهي التي لقيه صنيعي البسيط في أن يكون سببا في هذا الفيض من السعادة التي اكتست بها أمي ولا تلك النبرة التي كانت تتحدث بها فخرا بما صنعت عن كل زيارة لصديقة أو إطلالة لزائر، ليكون الحدث الأول المتداول في ربوع بيتنا الصغير.

استقبال برغم ما طغت عليه بوادر الفرحة والفخر إلا أنه فرح اكتسى بنوع من الحزن المبطن النابع من إحساسي الكبير بالعجز والخجل نابعا من تساؤل أغم نفسي المكلومة حينها بزهو متسائلا عن سبب تلك الفرحة التي فاضت عما كنت أتوقعه لأيقن أنه كان نتاجا لا لما صنعت بل نتاجا لصنيع لم يكن متوقعا مني بالأصح ليتحول الفرح العارم إلى حسرة والسرور الذي عم المكان إلى ندامة عكست كمية من المفاهيم التي لطالما تحليت بها وتوسمتها على صدري مثالا للرجولة الكاملة فالرجل لا تمس يده قدرا للطهو ولا ماء للغسيل ولا تحمله قدمه ليسقي نفسه شربة ماء بل تأتي إلى منصاعة بمجرد أن يشير بذلك وكلما زاد فيها زاد في مقدار الرجولة كيلا وفي ميزان السيادة المزعومة شبرا بينما انحط في ميزان الدين إلى ما دون ذلك.

تجربة ليست بداع المفاخرة ولا الإعجاب وليست نوعا من الوعظ المبطن بل دعوة لإعادة الحسابات في كثير من المفاهيم التي لن ولم تكن يوما مقياسا على الرجولة
تجربة ليست بداع المفاخرة ولا الإعجاب وليست نوعا من الوعظ المبطن بل دعوة لإعادة الحسابات في كثير من المفاهيم التي لن ولم تكن يوما مقياسا على الرجولة
 

دين ارتاءاه وخطه أحفاد الجاهلية وخلائفهم لا اتباع رسول أوصى قائلا: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" ولا نهج نبي كان في خدمة أهله وداره يعينهن على ما شق عليهن ويخدم في خدمتهن فيخصف نعله ويرقع ثوبه ويوصي أمته بنهج منهاجه من بعده لتخرج أمة قد ضيعت الأمانة وباعت الوصية وهي الوصية التي قيلت في ساعات أخيرات من حياة أشرف البشرية وأطهرها لتدل على مكانتها وعظمها.

دعوات ظهرت جلية في شاشات التلفاز وقنواتها يزينها مشايخ حولوا الحياة الزوجية إلى ساحة من الوغى وجذوة من الحرب فيجيب أحدهم بعدم وجوب خدمة المرأة في بيتها وعدم لزومها القيام بذلك بينما يجيب الطرف الأخر رادا تلك المزاعم وفارضا ذلك الأمر متوعدا كل من ترفض ذلك بنار لا تبق ولا تذر لتتحول سكنى الزوجية إلى حلبة صراع كبيرة ومحاولة لفرض سيطرة كل طرف سطوته على الأخر ناسين أواصر الرحمة والمودة والمواثيق التي انزلها الرب في رباط قدسي أسماه بالميثاق الغليظ.

لا أعلم لماذا يعتبر البيت العربي عبارة عن معركة للسيطرة ربما لو تركنا الأمور تمضي من دون تلك الحسابات المطولة والتفكير في كثير من الأحيان فيمن من المفترض أن يقوم بهذا أو يقوم بذاك في صراع مرير لفرض السطوة لكان الأمر أسهل بكثير لكننا تربينا في مجتمع معاق المشاعر إن تعلق الرجل بأمه برا فهو ابن أمه المدلل وإن مد يد العون إلى زوجته يوما فهو ضعيف الشخصية رخو وإن أحب زوجته واستوصى بها خيرا فهو مسحور مغمض العينين فكان نتاج هذا المجتمع المعاق فكريا أن ينتج عنه هذا المسخ المعاق عاطفيا ونفسيا.

هي تجربة ليست بداع المفاخرة ولا الإعجاب وليست نوعا من الوعظ المبطن بل دعوة لإعادة الحسابات في كثير من المفاهيم التي لن ولم تكن يوما مقياسا على الرجولة بقدر ما هي خلافها ولا ضربا من الدين بعكس ما هي النقيض منه ظانا أنه يرتفع في مقدار الرجولة بينما يهوي عميقا في ميزان النبوة الحنيفة والدين الإسلامي السمح لعل رغوة من الصابون تغسل عن أعينكم غشاوة الرجولة المزعومة كما غسلت غشاوة كاتب هذه الحروف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.