شعار قسم مدونات

أمراضنا النفسية.. لماذا لا نختار الطبيب بدلا من السخرية؟

blogs المرض النفسي

منذ أيّام، تداول الناسُ على "فيسبوك" منشورات رجلٍ من مخيم جباليا شمال غزة، يدّعي فيها النبوّة، وينذر المكذبين بالوعيد، ويسمّي بعض عوائل المخيّم بالاسم. ضحك الناسُ منه، وشاركوا منشوراته مستهزئين متفكّهين، أو راثين لحاله وما أدّى به إلى ما ادّعاه، مستذكرين حال غزة وما يلقاه أهلها من النكال على يد المحاصرين صهاينة، وعربًا متصهينين.

 

قلّةٌ من الناس -كالصديق علاء أبو دياب- اهتمّوا بمصيبة الرجل الشخصية، وأنّ أهمّ ما ينبغي فعله فورًا هو أخذه إلى الطبيب النفسيّ، وترتيب برنامج العلاج المناسب له، بدلًا من الضحك والاستهزاء، فضلًا عما تعرّض له من السجن والإهانة، بغير ذنبٍ اقترفه، وإنني -للصدفة- أعرفُ الرّجل من بعيد، إذ هو ابن منطقتنا، وهو إنسانٌ طيّبٌ من عائلة كريمة، ولا يستحقُّ هو ولا أهله شيئًا مما أصابه.

 

أكادُ أجزمُ أنني لو كنتُ بغزة لاتصلتُ بمن أعرف من أهله، ورتّبتُ له موعدًا مع الطبيب النفسيّ، بل وربّما رافقته إلى الطبيب، وقد فعلتُها مرارًا مع أناسٍ ألقتهم الصدفة في طريقي، لم أكن أعرفهم. قصة نبيّ جباليا أعادتني للتفكير في معضلة الذهاب إلى الطبيب النفسيّ في بلادنا، نتطوّر كثيرًا في عاداتنا الاجتماعية، نتعولم أسرع بكثير مما يجب، تغزونا الأفكار والعادات والأطعمة والتقاليع وكلّ ما يخرج في الأغاني والأفلام ووسائل التواصل الاجتماعي الغربية، إلا الطبيب النفسيّ، تحطّمت على بابه كلّ وسيلة، وسُدّت أمامه كل ثغرة، فمن يزوره في عرفنا مجنون معيب، والعيبُ منّا بعيدٌ لا شكّ.

 

كان صديقي، لكننا لا نسكن في المنطقة نفسها، ولم أدر به إلا وهو يدقّ بابي، فرحتُ بزيارته المفاجئة، لكنني لاحظتُ اضطرابه، سألتُه إن كان ثمة شيء، ففاجأني بكونه "المهديّ المنتظر"!

أسوأ ما في تعاطي مجتمعنا مع المرض النفسيّ، هو تحويره السريع إلى حالة "حسد" أو "عمل"، فالناسُ عندنا يفضّلون أن يكون ابنهم محسودًا، لأنه مميز بلا شك، أو "معمول له عمل"، فهو مستهدفٌ من الأشرار، تحليل يتفق جدًّا مع نظرة الأهل المعتادة لابنهم ذي الفرادة والألق، المحتاج إلى الحماية والدفاع الدائمين. لستُ مشتغلًا في مجال الطبّ النفسيّ، ولا عندي خبرةٌ به، لكنني مررتُ على قصص أثّر الذهابُ أو عدمُ الذهاب إلى الطبيب النفسيّ أثرًا كبيرًا في حيوات أصحابها.

المهديّ العاشق

صديقُنا هذا كان شابًّا غزيًّا نموذجيًّا، تتمناه معظم الأسر الغزّية ابنًا تفتخر به، متفوّقٌ في دراسته، حافظٌ للكتاب الكريم، وبطلٌ من أبطال المقاومة، ووسيم حسن الوجه والمظهر، لطيفٌ وخلوق أيضًا. أصيب في اجتياحٍ لمنطقته، وخرج من إصابته بإعاقة بسيطة في يده، لكن يبدو أنها أثّرت كثيرًا في نفسيّته، ناهيك عن الآلام التي عانها في مسيرته. تجاوز الرجل إصابته، وواصل حياته الدراسية والعملية بتفوق، لكنّه لم يتجاوز حادثةً أخرى مفصلية في حياته، إذ أحبّ فتاةً من حيّه، فتوجّه لخطبتها، ورفضه أهلها، قيل آنذاك: إنه بسبب خوفهم من نشاطه في المقاومة.

 

كان رفضُه من قبل أهل الفتاة صدمةً له، وكأنّه شعر هوىً من الفتاة نحوه، ففاقم ذلك من حزنه وغضبه، غادره النوم أيّامًا وليالي حتى فاجأ أهله يومًا بقراءة الآيات القرآنية التي نزلت في كفار مكة، ثمّ ينزلها على أهل الفتاة وعائلتها وحيّها وبلدتها أجمعين، فما كان منهم إلا أن داروا به ثلاثة أسابيع كاملة على المشايخ والمشعوذين يقرأون عليه ويرقونه بلا طائل.

 

كان صديقي، لكننا لا نسكن في المنطقة نفسها، ولم أدر به إلا وهو يدقّ بابي، فرحتُ بزيارته المفاجئة، لكنني لاحظتُ اضطرابه، سألتُه إن كان ثمة شيء، ففاجأني بكونه "المهديّ المنتظر"، وأنه يطلب مني البيعة والنصرة، وطلب منّي أن آخذه إلى والدي، بوصفه قائدًا وعالمًا دينيًّا معروفًا. ناقشته بلا فائدة طبعًا، ثم اتصلتُ بأهله، وجاء منهم من أخذه، والتقيت أخاه وأخبرته عن ضرورة العلاج، فذكر لي أنّه قد بدأه فعلًا، ولكن متأخرًا بعد ثلاثة أسابيع من الضياع والدوران على الشيوخ والعرافين!

 

التأخر الذي جرى كان سيئًا جدًّا، حاول أهله إصلاح حاله بكلّ وسيلة، بل إنهم زوجوه فتاة غير فتاته ظنًّا أن الأمر قد يصلحه، لكن حياته انتهت بانتحار مفاجئ، وقد شهدتُّ عرسه وجنازته، رحمة الله عليه.

 

محطّ الآمال وقرة الأعين

من أشهر حالات الضغط التي تسبب المرض النفسيّ، هي حالة الطفل الذي يعلّق عليه أهله أمالًا كبيرة، خصوصًا في مجال التعليم، ويزداد هذا الضغط كلما ازدادت الهوة بين تقدير الأهل المبالغ فيه، وبين ما يستطيعه الطفل فعلًا، ومن ذلك فتى التقيته صُدفةً وهو يتحدّث عن الجنّ الذي يتلبّسه أيام الامتحانات، ويتحكم بيده فلا تكتب إلا طلاسم وخزعبلات. كان الطفل يتحصل على درجات عالية في مراحله الدراسية الأولية، وكان والده يراهن عليه رهانًا كبيرًا في نتائج الثانوية العامة، حتى فوجئ به وقد حصل على صفر، ثم تبين بعد مراجعة أوراق إجابته أنه لم يجب عن سؤال واحد في جميع امتحاناته، ثم كرر ذلك في عامه المقبل.

 

عرفتُ من حديث الفتى حالة الضغط التي وُضع فيها، واقتناعه في داخله بأنها السبب في كل ما جرى، تحادثنا وتناقشنا ثم عرضتُّ عليه المساعدة، اتصلتُ بطبيب نفسيّ مشهور بغزة، ثم ذهبتُ معه في موعده الأول مع الطبيب تشجيعًا له. تواصلتُ بعدها معه ومع الطبيب، اطمأننتُ إلى انتظامه في برنامج علاج.

 

الحالة الثالثة هي لشابّة فلسطينية قدمت من السعودية للدراسة الجامعية، أقامت ببيت جدّها، وسجّلت بالجامعة الإسلامية حيثُ كنتُ أدرّس حينها. بدأت قصّتها يوم طرق بابي رجلان كهلان لا أعرفهما، تبدو عليهما ملامح القلق والحيرة، سُرعان ما كشفا عمّا جاءا لأجله، إذ أخبراني أنّ ابنة أخيهما في حالة سيئةٍ جدًّا، وأنّ "جنًّا" يتلبسها أيام الامتحانات، وأنها إذا ذكر لها الامتحان تكاد تغيب عن الوعي، وقد ذهبا بها إلى جمعٍ من "المشايخ" الخبراء، وأجمعوا على أنّها تحت تأثير سحر ما أو جنّي! كنتُ أسمع لهم باستغراب حتى قلتُ لهم: وما شأني بكلّ هذا؟!

 

الأمراضُ النفسية -على تفاوتها- منتشرةٌ في المجتمع انتشار الأمراض الجسدية، غير أنّ الناس في بلادنا يسارعون إلى الطبيب لأدنى شكاية جسمانية، ويتركون النفوس الجريحة والحزينة والمضطربة لتصارع وحدها المرارة والألم!
الأمراضُ النفسية -على تفاوتها- منتشرةٌ في المجتمع انتشار الأمراض الجسدية، غير أنّ الناس في بلادنا يسارعون إلى الطبيب لأدنى شكاية جسمانية، ويتركون النفوس الجريحة والحزينة والمضطربة لتصارع وحدها المرارة والألم!
 

فقالوا: لا شأن لك به، إنّما عرفنا أنّك مدرّسٌ في الجامعة، ونحن "بلديّاتك"، ونريدُك أن تساعدنا في تأجيل الامتحانات لابنتنا. فقلت لهم: انسوا أمر الامتحانات وكل شيء، هذه قضية سهلة، المهم أن تدركوا الفتاة، دعوكم من الدراويش، وأسرعوا بها إلى الطبيب النفسيّ. فما كان منهم إلا أن استنكروا كلامي! وتضايقوا منه أشدّ الضيق! وقالوا: لا! ليست مريضةً نفسية، بل مسحورة! خضتُّ معهم جدالًا عسيرًا، ولم يقتنعوا بحال، فقلت لهم حينها: على كلّ، موضوع "تأجيل الامتحانات" هذا، ليس لي فيه حيلة، إنّما يقبلونه لسببين: إمّا بسبب وفاة في العائلة، أو بسبب مرضٍ موثّقٍ بتقرير طبّي، ولا شيء غير ذلك سينقذها من الرسوب! فطبيب الجامعة لا يعتمدُ قصص السحر والجنّ سببًا يؤجّل الامتحانات بسببه.

 

قالوا: وما العمل؟! فقلت لهم: لا شيء غير الطبيب النفسيّ سينقذكم، وأنا أعرفُ واحدًا يمكن أن يكتب لها التقرير المطلوب! قالوا: لكن ابنتنا ليست مريضة! فقلت: خذوها له وأنا أضمن لكم أنه سيعطيكم تقريرًا. ذهبوا للطبيب بعد كل ذلك العناء، وشخّصها حالةً شديدة التدهور، وقال: لو صبرت أيامًا لتفاقمت حالتها بحيثُ يصعب إصلاحها. المهم أن أهلها أخذوا التقرير، والعلاج بطبيعة الحال، وأجلت الجامعة لها امتحاناتها. نسيتُ موضوع هذه الفتاة بعدُ، إلى أن مضى عامان تقريبًا، فمرّت بمكتبي طالبةٌ لا تدرس عندي، سألتها عما تريده؟ قالت: هل تذكر الفتاة الفلانية من عائلة كذا؟! والتي أجبرتَ أهلها على أخذها للطبيب النفسيّ؟ فتذكرتها على الفور، وقلت لها: تبدين بخير حال! قالت: نعم، وقد جئتُ لأشكرك!

 

هذه القصص ليست سوى نماذج لما اطلعتُ عليه، وأنا فردٌ واحدٌ، وقد تركتُ أكثر مما ذكرت، فالأمراضُ النفسية -على تفاوتها- منتشرةٌ في المجتمع انتشار الأمراض الجسدية، غير أنّ الناس في بلادنا يسارعون إلى الطبيب لأدنى شكاية جسمانية، ويتركون النفوس الجريحة والحزينة والمضطربة لتصارع وحدها المرارة والألم! 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.