ثبتَ عن أبي القاسِم الجُنيد بن محمد أنه كان يقُول: عِلمنا مَضبوطٌ بالكتاب والسنة، من لم يحفظ الكتابَ، ويكتب الحديث، ولم يتفقه؛ لا يُـقتَـدَى بِه. تاريخ بغداد 8/168. إنَّ الذي يتأملُ الوَاقعَ المُجتمعي بكُلِّ ما فيه من سُلوكياتٍ متضاربة، وأفكارٍ وتوجُّهاتٍ متناقضة؛ يَلحظُ في زاويةٍ بَرَّاقةٍ من زواياهُ تُعرَف بـ (زاوية المشاهير) أو القدوات، الذينَ يُجعَلُون (بالبناء للمفعول) فِي المقدمة، ويُقدَّمُون في وسائل الإعلام – على اختلافِ أشكالها: السمعية والبصرية والمقروءة – على أنَّهُم رموزٌ بارِعةٌ في تسلقِ سُلَّم النجاح، وأنَّ الفائزَ من حَذا حَذوَهُم وسار على طريقتهم الباهرة والمتميزة – زعَموا -، والخاسرُ من لعنَ حالهم ومآلهم وسبيلَهم المشؤوم.
وقد أثَّرت هذه السياسةُ المدروسَة بعنايةٍ ودقَّةٍ بالغةٍ في عُقولِ غالبيَّةٍ عُظمى من شبابِ المجتمع العربي المسكين، فصَارت فِئةٌ عريضة منهم لا ترَى النجَاح والرُّقِيَّ والتقدُّمَ الفكري والمجتمعي، إلا في احترافِ الغناء والرَّقص والمُجون أو الفن بكل أنواعه وألوانه التي يُقدِّمها هؤلاء المفسدون ويروِّجُ لها دُعاةُ التدمير ورؤوس الشر والانحلال في هذه البلاد وفي غيرِها.
الواجبُ أن نكونَ يقظين في قِرَاءة الواقع وتأمُّل أحواله بنظرةٍ مُنضبطة بأصول وقواعد شرعنا الحنيف، ومُدركين لما تؤول إليه أحوَال نفوسنا بالسَّير خلفَ هذه الأمور من سَيِّءِ الأخلاقِ وقبيحِ الأفعالِ |
وإذن؛ فقد صَارت هذه القُدواتُ المصنوعَةُ من قبل من يدفعُها ويمَوِّلُها ويروِّج لها؛ محطَّ أنظارِ واهتمامِ كثيرٍ من شبابنا حينمَا ينظرُونَ إلى أفق المستقبل وأحلامِ الغد وتطلُّعَاتِ ما تصبو إليه نفوسهم لتكونَ عليه من النجاح في قادمِ الأيام، وبذلك صار معيارُ تمييز قبح الفِعل من حُسنه – عند كثير منهم – هو: إتيانُ القدوةِ به أو تركُه، فالغناءُ والرقصُ والسُّفور والتفلت من قيودِ الشرع ومبادئه وأخلاقه؛ قمَّةُ النجاح وغاية المُنَى في أحلام المستقبل؛ ما دام هو حالُ وحرفة القدوة وجِلبَابُه الذي لا ينزع عنه متى ما تمَّ التسويقُ له في أي وسيلة من وسائل التأثير والإعلام.
والحقُّ أنهُ ما كان لهؤلاءِ المشاهير أن يكونوا في هذه القمة الوهمية إلا بخُطة وجُهد ومسَاعدة كبيرة – مباشرة أو غير مباشرة- من المستفيدين من تأثيرهم السَّلبي على شباب الأمة. يقول الدكتور سعيد عبد العظيم في كتابه صناعة المشاهير ص: 183: وخلاصة القول : أن نعلمَ أن صناعة هؤلاء المشاهير المُزَيَّفين، وإبراز أفكارهم وآرائهم، وإضفاء الهالة حَولها، ليكونوا قدوة وقادة للناس؛ إنما تتولاهُ في الأعم الأغلب أجهزةٌ ودوائرُ مشبوهة، ويلعب أعداء الإسلام والمسلمين بصفة خاصة دورا كبيرا في ذلك.
وهكذا كما ترى يصعنونَ للشباب والشابات من (القدوات) ما يخدُم مآربهم، ويُثْرِي مجارِيَّ مصالحهم وغاياتهم المرحلية والكبرى. وحينما تسُودُ هذه الصناعة وتغلب على مجتمع من المجتمعات، بحيث لا يَرَى المُتأمِّلُ فيمن يُرَوَّجُ لهم وتُنَمَّقُ صورهم وتفاصيل حياتهم في الأذهان؛ إلا من وصفنا سلفا؛ فاعلم أن الشبابَ المسكين لا حيلة له إن انجرَّ خلفهم واغتر بما زُيِّن له من سوء حالهم، لأنه مغلوبٌ على أمر نفسه، ومقهورٌ حيال ذلك؛ لما دُبِّر له أولا ودبَّرَه هو لنفسه ثانيا بعدم الوعي واليقظة وقراءة الواقع ومجرياته بتأنٍّ وتفكُّر وشديدِ انتباهٍ.
وإنما قلت أنه لا حيلة لمن سُلِبَ عقله وسط هذه الأمواج المتلاطمة من سياسة التسويق للمشاهير والنفخِ فيهم وتَضخيمِ أحوالهم؛ لأن الطباعَ البشرية مجبُولة على تقليد من يسُودُ في الوسط المجتمعي تعظيمه وتقديره والاحتفاءُ به، بل وبكُل شؤونه من الحُصول على الجوائز والأوسمة إلى تغيير الملابس وتعديل تسريحة الشعر. ويقرِّرُ هذا المعنى في طبيعة الإنسان ويؤكده قول الإمام الشاطبي رحمه الله: أن التأسِّي بالأفعالِ –– بالنسبة إلى من يُعظم في الناس -؛ سِرٌّ مبثوثٌ في طباع البشر، لا يقدِرُون على الانفكاك عنه بوجهٍ ولا بحَالٍ. الموافقات 4/248. ولكن هذا المبرر لا يُزِيل بحال من الأحوال واجبَ المسؤولية المُلقاةِ على عاتق كل شابٍّ تجاه نفسه من ضرورة التوفر على قدر كافٍ من المُؤهلات العلمية والفكرية والمعارف الإيمانية التي يُوَاجه بها تسلط هذا الانسياق الأعمى عليه.
فالواجبُ أن نكونَ يقظين في قِرَاءة الواقع وتأمُّل أحواله بنظرةٍ مُنضبطة بأصول وقواعد شرعنا الحنيف، ومُدركين لما تؤول إليه أحوَال نفوسنا بالسَّير خلفَ هذه الأمور من سَيِّءِ الأخلاقِ وقبيحِ الأفعالِ والأحوال، وواعين تجَاه ما يُرَوَّج في الساحة ويُرَاد لنا ان نتلقفه ونتقبله بل ونتبناهُ وننافح عنه دونَ نقدٍ وفحْصٍ واختبار وعرضٍ على نصوص ومبادئ ديننا. فليسَ كل ما تراهُ عينك وتسمعه أذنك في فوضى هذا المجتمع؛ برِيءٌ من سِهام الاستهداف المسمُومة، وخالٍ من قصد استقطابكَ من حيثُ تشعر أو لا تشعر…!
ولا يتحققُ هذا الوعيُ إلا إذا وقَفَ المرءُ مع نفسه وقفة تأمُّلٍ، ليُبصِر حالَها وموقعَها ويَعِي ما يُدَبر لها، فيأوب إلى رياض المعرفة وروضَة العلم عند أهله المخلصين في نُصحِهم وتوجيههم؛ لِيُنِيرَ قلبه بنورِ الوحي، ويُضيء جنباتِ رُوحه بالمَعاني الربانية والحِكَم الإيمانية، ويَصقُل ذهنه بالمعَارف الإسلامية الرَّصينة على أصولها وقواعدها المتينة المُحرَّرة، ولتَنقشِعَ عن ذهنه ظُلمة الغفلة ويسُودَ فيه شُعاع اليقظةِ والوَعيِ والنباهة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.