منذ تَفتُّق بُرعمةِ الإنسان في الرّحم وهو يتقلّب بطبيعتِه من حالٍ إلى حال، يتغيِّر من نطفةٍ إلى علقةٍ ثم إلى مضغة حتى يصبح إنسانا شامخَ القوّةِ متكامل الخلق والبنية، لم يُعرَف لإنسيٍّ أنٌه بلغ درجةً من التطوّر والتحسّن إلا إذا تشَرَّب من ذلك البحر الذي يسمونه التغيّر. ينهال عليك النّاس فيدعونك بالمُتغيّر ظنا منهم أنها صفة ذميمة يصِحُّ أن يتقاذفَها المتخاصمون على قِمم الغضب والغيظ، والأسوأ أنّك تجد المُتلقِّي ينفي ذلك وكأنه يستحِي بعارِه الذي خبَّأه تحت إِبطِه مخافةَ أن يراه أحد فيُذيقه من لَومِ الكلام علقمَا.
ثمّ إنّهم جعلوا التغيُّر سببًا للتَّنافر والخصومة، منذ القِدم اعتبروا من يُغيِّر دينَه حتى ولو كان مصيبًا قد غَار في وَحل الخطيئة ويستوجبُ الرجمَ والزجرَ والشتمَ والإِقصاء، وفي العلم من غيّر حقيقةً علميةً ثابتةً في مقاييسِ تقديرِهم للأشياء وتفسيرِهم للحقائق مُجرِما ويستحِقّ عقابًا لجريمته فيُزَجُّ في غياهِب السٌجون عَلَّه يَستمِدُّ من ظلامِها ما يُعيدُه درجاتٍ إلى تخلّفِهم الفِكري والحضاري والآن كلّ من أراد أن يغيّر فكرةً قذفوه بشتّى عباراتِ الإِحباط التي نجحت في ترويضِ عزيمةِ الكثيرِ منهم، وكلّ من أراد إثباتَ حقيقةٍ وجد نفسَه في دوَّامةِ المعارضةِ ذات النقاشاتِ العقيمةِ والعباراتِ المُثبِّطة للعزِيمة فيفرِش أمَام سابِقِيه وينتظر في يأسٍ زمنًا تظهرُ فيه حقيقةُ الأمورِ ويُخيِّم العدل فيه على الظالم والمظلوم، الحق والباطل، الصحيح والخاطئ، آنذاك يتبيَّن لهم أنَّ ذلك الشَّخص فَذٌّ من أَفذاذِ زمانِه ولكن بعد أن أصبح في ذلك العالم الذي يحِقُّ فيه الحقّ على جميع الخلق ويظهر الكذب من الصدق.
ولا يكفيهم من جرائِمهم قتلُ العزائم التي هي أكثر مرارةً وقهرًا من إزهاق الأرواح بل ويسارِعون لتخاطُفِ نظريةِ غيرِهم فيُزيِّنون ويُنمِّقون ويعرِضون أنفُسهم قبل الفكرة إلى الخلق ليخطِفوا أضواءَ شقاءِ المغلوبِ على عقولِهم بحقيقةِ أنَّه لا يحقُّ لأيِّ إنسٍ أن يُغيّر لا من نفسِه ولا من فكرة لم تتوافق محبوكاتُها مع تفكيرِهم المُجرَّدِ من مَلَكةِ الاكتشاف والاستنتاج.
عندما أقترِف ذنبًا أتغيّر لأنِّي يجب أن أتخطَّى بإِدراكي هفَواتي السّابقة، عندما لا أستوعِب فكرةً أتغيّر لأنَّ عقلي مِرساةُ حقيقَتي لم يتقبَّل أن أكون تَبَعًا لخُرافاتهم المَغلوطة |
ثمّ إنَّ هاتِه الحياةَ مستودع أسرارٍ، وبِتعايُشِنا على أساسِ حقائقِها يجب علينا أن نتغيَّر ونُغيِّر من أنفسِنا وتفكيرِنا على حسب مقدارِ الخبايا المُكتشفة وكمية الحقائق المفروشةِ على بِساطِ الواقع لنبلُغ الجانبَ الأقرب إلى الصحيحِ والسليمِ من كل هفوةٍ من هفواتِ التَّفكيرِ البشريِّ المحض. أيّها النّاس لم يكن لإنسيٍّ أن يتغيّر إلا إذا كان قد سئِم من دوّامة التِّيهِ التي ضاع فيها سواءً بتفكيرِه أو إحساسِه، فتجدُه يُخرِج مخالبَ عزمٍ ليتحرَّر بعقله المدفونِ تحت طيَّاتِ التَّثبيط ومشاعرِه المَهدورَة في اللاّحس واللامبالاة، لم يكن يوما مخطِئا ولا مُجرِمًا بل مستبسلًا استطاعَ أن يَبلغ بإصراِره وتقديرِه لشرفِ إِنسانِيَّتِه وعقلِه ما لم يبلُغه الكثير المُستسلِمون للفشلِ المفروضِ عليهم من غيرهم من الخلق.
وليس التغيّر أن أتبَع ظلَّ غيري فأبدِّل مساري لأخطو خطواته أو أحتوي أفكارَه بكلّ تصدّعاتِها وثغراتِها أو أتخلّى عن مبادئِي الصائبة متلهّفةً خلف بريقٍ شدَّ نظري لنجاحِ شخصٍ آخر فأنبهر بمظاهره وأرتمي بتَصدِيقي على كلّ ما جاء به ،قال أو حتى سيقول، ليس معناه أن أكون إمَّعةً للنَّاجِحين يتقاذفون تَبَعِيَّتي بين أفكارهم المتناقضة فأرسو في جانبٍ وأترك آخرا ظنًّا منِّي أنَّ لمعان نُجومِيَّته وتفوُّقِه كفيلةٌ بأن تضُمَّني لزمرتِه وتغرِقني في نعيمٍ جنَاهُ نجاحُه، التغيُّر يا صديقي أن أسلُك بتفكيري سبيلاً أراه صوابا، فكرةً أو حقيقةً يحمِلها عقلي بعد أن استوعبَها حقَّ الاستيعاب حتى نضوجِها ثم يقينًا أضعُها على مِحكِّ الحقيقة أمام تضاربِ أفكارِ الجميع وكُلّي ثقةٌ بأنِّي سأصعد بها على الرغم منهم سُلّم الحقيقةِ درجَة وهي التي نقَّحتُها من نقائِصها بجهدِ شخصِي طويلاً حتى تُتَوَّج يوم عرضِها حاصلاً مثمرًا فظُلمُ منِّي لفِكري أن أُجهِض نتاجَه قبل أوانِ اكتمالِ تركيبِ صحَّته فلا يبلغ حينَها بعمرِ بقائِه تلاطمَ عقلٍ أو عقلين.
أن تجدَ شخصًا يستخرج لعَيَانِك ما خفِي فيكَ عنك، بل ويساعدك في التَّحسين منه فيسقِيك بكل عبارةِ تشجيعٍ بصيصَ أملٍ يُخرجك به من قاع المجتمعِ الذي يتربَّع فيه الكثير بين أسوارِ يتجاوز طولُها قدرتَهم على الطموح، خاضِعين مُحبَطين، فيُقوِّي فيك نفسك ويبعَث بها إلى عالمٍ يليق بالنَّاجحين أُولي العزم والعزيمة لَهُوَ من الفُرَص التي يُقدِّمها القَدر المُشفِق على البرِيق الكَامن فيك أن يُخمدَ سُدًى ليفجِّر بها مفخرةً له يحكِيها عَبْر زمانِه كلَّما استُهِلَّ للنَّجاح حديث واستُرسِل بين قصص المديحِ للمُبهِرين لسان.
نعم أنا أتغيّر وفَخري أنِّي لست مع الرَّاسين الخامِدين بتفكيرِهم محشورة، عندما أقترِف ذنبًا أتغيّر لأنِّي يجب أن أتخطَّى بإِدراكي هفَواتي السّابقة، عندما لا أستوعِب فكرةً أتغيّر لأنَّ عقلي مِرساةُ حقيقَتي لم يتقبَّل أن أكون تَبَعًا لخُرافاتهم المَغلوطة، أتغيّر لأنِّي بوعيِي أتطوّر لأتقدّم، أتغيّر لأنِّي إنسان ذو عقل والعقلُ بطبيعتِه يتغيّر ليتحرّر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.