تشتهر القطط أنها بسبعة أرواح، ولكن فضول الإنسان قتلها بالرغم من حظّها في الحياة، فقد اشتهر المثل الإنجليزي الذي يقول "الفضول قتل القطة"، فقد دفع فضول العالم الفيزيائي شرودنج لوضع قطته داخل صندوق ووضع معها عبوة متفجرة تكفي لقتل القطة وذلك بهدف فحص نظرية خطرت بباله، وأغلق الصندوق عليها، فأصبحت النظرية تقول ما لم يفتح شرودنجر الصندوق فهناك احتمال 50 في المائة بأن القطة ما زالت حية وهناك احتمال 50 في المائة أن القطة قد ماتت بالمتفجرات أو الغاز السام، فماتت القطة نتيجة ذلك الفضول.
أما في مجتمعاتنا الإسلامية فالفضول والتدخل في شؤون بعضنا البعض بات يقتل الإنسان وليس فقط القطط، فقد اشتهرت المجتمعات الإسلامية بعلاقات اجتماعية مترابطة وقوية إلى درجة يمكن أن نقول أنها في بعض الأحيان تتجاوز الحدود لأكثر مما ينبغي، فالتواصل بين العائلات والأقارب مستمر، لدرجة تكون متعبة ومكلفة أحيانا، وبعيدا عن الدخول في تفاصيل العلاقات الاجتماعية، إلا أن هذا الترابط له من الإيجابيات ما له وعليه ما عليه، ولو قدر لباحثين أن يدرسوا النتائج الإيجابية والسلبية لطبيعة العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية لخرجوا بنتائج جميلة.
ما أود أن أسلط عليه الضوء في هذا المقال هو إحدى النتائج السلبية للترابط الاجتماعي، وهي بلا شك محاولة لتسليط الضوء على إحدى السلبيات التي نتمنى على فئة الشباب أن تعيد النظر فيها حتى نتجنبها ونعيش مستقبلًا أجمل وأكثر راحة. الظاهرة السلبية المنتشرة لدينا والتي أود تسليط الضوء عليها هي حب الاستطلاع القاتل أو الزائد عن حدّه، ففي كثير من مدن العالم لا يعرف القريب عن قريبه شيئًا، فلو اشترى أحدهم سيارة أو عقارًا أو غيّر عملَه فقد لا يعرف أحد بذلك، أما عندنا فلسنا فقط نتابع أدق التفاصيل عن حياة بعضنا البعض، إلا أننا أيضا نحب أن نطّلع على تفاصيل التفاصيل التي نحن في غنى عنها.
هذه الظاهرة من حب الاستطلاع القاتل جعلت حياتنا لا تطاق، وانتشر الكره والحسد والبغضاء، وأصبحت كثير من الجلسات كابوسًا اجتماعيًّا على كثير منا، وبات الترابط الاجتماعي مجاملات كاذبة |
شخص يفسخ خطوبته نتيجة ظرف ما، تقوم الدنيا ولا تقعد والكثير منا يود معرفة التفاصيل والأسباب، فتجد إحداهن تذهب في زيارة إلى صديقتها التي لم تَرَها منذ عشرة أعوام لأنها قريبة الفتاة التي فُسخت خطوبتها حتى تشمشم أخبارًا منها وتعرف ما السبب، ويتعرض ذلك الشاب أو الفتاة الى عشرات الأسئلة يوميًّا عن سبب فسخ خطوبته ويضطر أحيانا أن يختلق أكاذيب أو حتى يظهر بعض المستور حتى يتخلص من الإحراجات والاتهامات.
تركب في سيارة أجرة، ومن سوء حظك تجلس بجانب السائق، فيدير حوارًا معك، وبدلًا من أن يكون حوارًا عامًّا عن الجوِّ والأحوال، يدخل ذلك السائق في دائرة حب الاستطلاع القاتل، فيسألك عن زوجتك وأنسبائك وأولادك وعملك وراتبك وما تملك وما لا تملك، والحمد لله أنه لا يعمل في دائرة الضريبة أو الأملاك. تتأخر إحداهن في إنجاب الأولاد فتقوم الدنيا ولا تقعد، يودُّ الجميع معرفة سبب العقم؛ هل هو من الزوج أم من الزوجة؟ ثم تتتابع الأسئلة والاستفسارات والدخول في التفاصيل في كل جلسة، والحمد لله أن الأطباء يحافظون على خصوصية مرضاهم فلولا ذلك لوصلت الأسئلة للأطباء.
نتابع بعضنا البعض ماليًّا، ويشغل بالنا ما يملكه وما لا يملكه فلان، نسرد في جلساتنا العامة ما اشتراه فلان أو علان من العقارات وما يملك من أموال وما يدير في الخارج من تجارة، وكم كلفته رحلته الفلانية، وكم صرف على عرس ابنه، وكم وكم، ولا يقتصر الأمر على الأغنياء فقط، فحتى الفقراء نتابع حياتهم، فإن رأيناهم في مطعم نقول: لماذا يذهب للمطعم وعليه ديون؟ هذه الظاهرة من حب الاستطلاع القاتل جعلت حياتنا لا تطاق، وانتشر الكره والحسد والبغضاء، وأصبحت كثير من الجلسات كابوسًا اجتماعيًّا على كثير منا، وبات الترابط الاجتماعي مجاملات كاذبة لا تخرج من القلب، فكيف سنتواصل بحب ولقاءاتنا تصب في دوائر مضايقة بعضنا البعض والتدخل فيما لا يعنينا.
لقد اختصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحل لهذه الظاهرة بحديث نبوي لو طبقناه لعشنا بسلام نفسي وراحة وطمأنينة، فقد قال عليه السلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، وهو حديث من الأربعين النووية، وقال عنه ابن رجب رحمه الله أنه أصل من أصول الأدب، كما قال عنه حمزة الكناني رحمه الله أنه ثلث الإسلام، كيف لا ورسول الله العالِم بما يشكل أنموذجًا سليمًا لبناء العلاقات الاجتماعية يرشدنا إلى ضرورة ترك الخوض فيما لا يعنينا؟ بات من الضروري لنا أن نستيقظ قليلًا، وأن نحمي نسيجنا الاجتماعي من الانهيار، العلاقات الاجتماعية والترابط الذي لا يبنى على المحبة وعلى أسس نفسية سليمة، سيتحول إلى وبال علينا شئنا أم أبينا، وقد بات ذلك جليًّا في انتشار البغضاء والحسد وعدم محبة الخير لبعضنا البعض.
فلنتوقف عن التدخل في شؤون بعضنا البعض، ولنتوقف عن الخوض في التفاصيل والبحث عما أخفاه غيرنا عنا، فلو أرادوا أن نعرفه لقالوه، ولنبرمج أنفسنا في جلساتنا الاجتماعية على إعادة صياغة أسئلتنا ومواضيعنا وأن نجعلها عامة لا تخوض في تفاصيل الخصوصيات، وتذكروا دائما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ: لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِع اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَورَتَهُ يَفضَحهُ في بَيتِه).
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.