يُعرّف العلماء الحضارة فيقولون: "هي الجهد الذي يُقدَّم لخدمة الإنسان في كل نواحي حياته، أو هي التقدم في المدنية والثقافة معًا"، فالثقافة هي التقدم في الأفكار النظرية مثل القانون والسياسة والاجتماع والأخلاق وغيرها، وبالتالي يستطيع الإنسان أن يفكر تفكيرًا سليمًا، مما يعود عليه بالازدهار والرفاهية، ليست المادية فقط، ولكن حتى المعنوية. أما المدنية فهي التقدم والرقى في العلوم التي تقوم على التجربة والملاحظة مثل الطب والهندسة والزراعة، وغيرها.. وقد سميت بالمدنيَّة؛ لأنها ترتبط بالمدينة، وتحقق استقرار الناس فيها عن طريق امتلاك وسائل هذا الاستقرار، فالمدنية تهدف إلى سيطرة الإنسان على الكون من حوله، وإخضاع ظروف البيئة للإنسان.
ويضيف العلماء في تحديد مفهوم الحضارة فيقولون أنه لابد للإنسان من الثقافة والمدنية معًا؛ لكي يستقيم فكر الأفراد وسلوكياتهم، وتتحسن حياتهم، لذلك فإن الدولة التي تهتم بالتقدم المادي على حساب التقدم في مجال القيم والأخلاق، دولة مدنيَّة، وليست متحضرة؛ ومن هنا فإن تقدم الدول الغربية في العصر الحديث يعد مدنية وليس حضارة؛ لأن الغرب اهتم بالتقدم المادي على حساب القيم والمبادئ والأخلاق، أما الإسلام الذي كرَّم الإنسان وأعلى من شأنه، فقد جاء بحضارة سامية، لم تسهم في تيسير حياة الإنسان فحسب، بل أرست قيّم ومبادئ وأسس وأخلاق، وقواعد ترفع من شأنه، وتمكنه من التقدم في الجانب المادي وتيسِّر الحياة له، أيا كان هذا الإنسان لا فرق بينه وبين غيره ولو خالفه في العرق واللغة والمعتقد.
وإذا التفتنا إلى شوارعنا وجدناها مملوءة قذارة، والكل يرمي خطأه على عامل النظافة، أو الجهات المختصة، وننسى أن التعاون والتفاهم والتنسيق فيما بيننا جميل، وقد تعترينا غصة من وسائل النقل التي حطمها العابثون. |
ومن ثم فإن الحضارة الإسلامية اهتمت بهذا الفرد، لكونه اللبنة الأولى في بناء المجتمع، فإذا صلح، صلح المجتمع ككل، وقام على أسس واضحة المعالم، لذلك جاءتنا الرسالة المحمدية بتعاليم، وأسس تسهم في جعل حياة الفرد هانئة مستقرة. أما إذا نظرنا ُ إلى ما آلت إليه الحضارة الإسلامية اليوم، رغم أن كتابنا المقدس – القرآن الكريم – والسنة النبوية لا يزالان بين أيدنا، فإننا نجد هذا الإنسان الذي كرمه الله عز وجل، قد نزل نزولاً حاداً في الأخلاق والأذواق. فلم تعد للكلمة عنده قيمة، وضُيعت الأمانات، كما ضاعت الأرزاق، إذ أنفق المال في غير محله، وضُيع الأبناء الذين يحتاجون إلى رعاية خاصة في صغرهم، حتى أصبحنا نرى منهم ما لا نحب، ونسمع منهم ما لا يرضي، إذ اعتادوا بذاءة اللسان، وخصام الأقران.
وإذا التفتنا إلى شوارعنا وجدناها مملوءة قذارة، والكل يرمي خطأه على عامل النظافة، أو الجهات المختصة، وننسى أن التعاون والتفاهم والتنسيق فيما بيننا جميل، وقد تعترينا غصة من وسائل النقل التي حطمها العابثون، وقد نجد غصص جهلنا بفقه الأولويات نجد من يحج أو يعتمر للمرة العاشرة بينما الكثير من حوله ضاقت بهم الحيل عن تسديد ثمن وصفة طبية هم في أمس الحاجة إليها، وقد نستشيط غضباً من ذلك التاجر الذي يتلاعب بالأسعار بمناسبة وغير مناسبة طلباً للربح السريع. ولو كان ذلك على حساب من لا يجدون قوت يومهم أصلاً، وقد ندهش لإفراط بعضهم في الاهتمام بالمظهر أكثر من الاهتمام بالمخبر، فهذه لحى وأقمصة تجوب الشوارع، وهذه مساجد تغص بآلاف المصلين.
ومع ذلك لا ترى أعيننا ذلك الإنسان المتحضر بأخلاقه، فلا الأفعال ولا الأقوال تشهد بذلك، مما جعل الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش يتنبه لهذه الظاهرة الغريبة فيقول في هذا المقام: "ستهاجرون إلى أوروبا، وتلتزمون بالقانون، ولا تلقون بأعقاب السجائر على الأرض، ولا تدخنون في الأماكن العامة، وتعبرون من الأماكن المخصصة للعبور، وسيكون لديكم حس أمني حتى لو اختطفت قطة من أمام نافذتكم، فستبلغون الشرطة، ستلبسون حزام الأمان عند قيادة السيارة، وتضعون مقعداً خلفياً للطفل، وتقفون في الطابور حتى لو بلغ طوله كيلومتر.." وأضيف لما لا نقوم بهذا في بلداننا، التي تربينا في أكنافها، وترعرعنا في ربوعها، ودخلنا مدارسها، حتى أصبح لنا اسماً ورسماً، أليس من الاجحاف أن نتنكر لها؟ ونعيث فيها فسادا؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.