هذه المرة لن تتزين المأساة بالكلمات ولن نخبئ رؤوسنا كالنعام بين الوسادات، لن أدفع فاتورة جلدي للجلاد ولن أسدد أقساط الماء المقطوع ولن أتحدث عن حلم لم يكن يوماً موجوداً سوى في مخيلتي الخصبة، لا شيء يحدث فوق الحق ولا شيء ينعته ولا يغطى بعين بيضاء، ولن نغني أغاني مبهجة عندما تكون أيامنا رمادية، إلى أن يأتي ربيع ما وأنظر لأيامي بسرمدية البهاء الذي يجعلك تعتقد أن حياتك الضئيلة تحولت من العدم إلى ساحة رقص شعبية تحتفل بها بالحرية ولن يكون أمامك لجنة تحكيم أو ألسنة عادلة وغير عادلة تصفك بالسوء أو بالنقاء، تلك الساحة الخضراء لن يلتفت أي أحد منا فيها لغير موقع قدميه وضبط الإيقاع، لن نرضى أن نمضي عمراً كاملاً نسير فيه إلى جانب الحياة ولم نلتقي بها أبداً!
هذه البقعة من العالم لم تعد تسمح للمستحيل بأن يكون ممكناً، تبدو كل الحكايات آيلة للمستوى صفر أو ربما أشد انحداراً، هناك مصابيح ملونة أو ربما نحن نعتقد بوجودها، في صدري غيم أسود سيمطر يوماً ما حلكته ليست ثقلاً فحسب، أنما هي غبار وأحلام باهتة أيضاً! أن لا تقبل على الأرض ثباتها وأن تميز الخيانة التي يدسها السياسيون في خطاباتهم الكاذبة، هذا مكان يشبه مذبحاً ما حيث يقع الجزار في حب ذبيحته الباردة ويعترف باكياً أمامها بعد ما أرداها ميتة لا هي تسمعه ولا هو يعلن توبته، هذه البقعة من العالم أيضاً، كل من فيها واقعين في حب أضاحيهم!، هذا النوع من الحب الذي يبدو فيه أن الطريقة الوحيدة لفهمه وجعله متاحاً أن يدفع الطرف الآخر ضريبة لتبجيل لم يتلقه أبداً، في الوقت الذي يعتقد أنه سينال بهجة زائفة ستطلق اللحى حداداً وستبتل بدمع بارد، لا عزاء!
حين نظن أن عدم الفعل يحمل نجاة من المصير المشوه، هناك عقوبة مخصصة لكل شيء لم نقم به، لكل شيء ماتت ألسنتنا عن تغييره، وكل يد لم نكفها عن الأذى، ما الذي قد يمنع ثورة في قلبي؟! خوفي من المسار العكسي الذي ستسلكه الأحداث، لأن الثورة لا تحتاج عمراً من الحسابات الدقيقة ولا يجب أن تضيع أيامها في رسم الجداريات، ما تراءى لي حقاً مهضوماً أصرخ بملء رئتاي أطلبه وأنا أنتظر الطلقة أو أطلقها أنا، كلنا نحمل مخالباً مخبئة وأجنحة قوية ولكننا ما زلنا نطلب الرحمة لأننا نخاف أو لأننا لم نصل بعد إلى تلك النقطة التي سيبدو لنا أنه قد حان الوقت لنخلص أنفسنا حقاً!
نحن نكتب لأننا صوت من أخرستهم الحياة، ولكننا مدججين بالخوف جميعاً، نحن لا نخشى ضياع الحكاية بل نخشى باب السجان، نحن من نؤجل الحياة وليست هي من تعرض عنا |
تلك الأيام المعتمة، حريٌ بنا أن نظنها استثناء في الوقت الذي تقسم لك عقارب الساعة الحادة أنها القاعدة والأساس، أنها لعادة أن يمر العقرب برأسه المدبب على الأرقام المستديرة أربعة وعشرين مرة في اليوم، حيث لا يجب أن تظل واقفاً، أو أن يستدركك طرفه الجارح أبداً، أو ستكون مضطراً لتحمل أربعة وعشرون جرحاً في اليوم، وتسأل نفسك لماذا لا أقف في لحظة ما لأغير المسير ثم أكمل وجهتي، أن الحقيقة المؤلمة أنك لن تستطيع تغيير شيءٍ واحد فقط، وهو الحقيقة رغم كل مرارتها ولن تخرج من نفسك أما كل الساعات التي نتركها على الجدران أو في الساعد أو أياً كانت كاذبة! كيف لا تتحرك من مكانها وهذا العمر يمضي، وتلك الأيام لا تقف!
في عالم اليوم، ألف وكالة أنباء وعدد لا نهائي من الصحفيين والكاتبين والمحاورين ولكن لا ثورة، هناك حكايات صغيرة لا بد أن نصرخ من أجلها دائماً، كيف يموت الإنسان على عجل بلا غاية، وكيف تبدو أحلامه هينة، نحن في مكان ما حيث أصبح من البخس أن تدفع سنين عمرك كلها في مكان لا يقدم لك سوى شهادة معلقة على جدار، جثث تسير بأعين مفتوحة وكما هناك ألف تساؤل ورغبات كثيرة في عداد الأمنيات، هناك ألسن تجيب عنها إجابة واحدة تبدو صالحة لكل الضياع الذي نحياه، تلك حروف كاذبة لا تُصدق فلا تعتقد أيها السياسي أننا نصفق مفتنين بخطاباتك التي فقدت صلاحيتها، كل الأمر أننا نحيا في مأساة أكبر من المأساة السائرة على قدميها وأعلى من صدى صوتك في المنابر، نحن أحرار لا يملكون حريتهم وهذه الأرض صماء!
من منا سيقبل أن يكون وقوداً ومن الذي سيبدأ ناراً لن يرى جمرتها، لا يمكنك أن تهز الأرض دون أن تلوح لها مودعاً ولن تتزين الحكاية بالياسمين الأبيض قبل أن يكون الدم في الصفحة الأمامية، غير أننا لا نملك ضمانات كافية لعدد الأوراق التي سنضطر لتمزيقها حتى نغير الحكاية! ماذا لو لم يعد هناك حكاية؟! يقول وديع سعادة: "أما التاريخ الحقيقي فهو تاريخ الضحايا والضعفاء والأبرياء والمهزومين، وهذا لم يكتبه أحد"، لا بد أن تجوع هذه الفئات حد الموت وتتحول القوميات والسلطات والأصوات والغايات إلى قشرة رقيقة يستطيع أن يفجرها بركان الثورة، نحن نكتب لأننا صوت من أخرستهم الحياة، ولكننا مدججين بالخوف جميعاً، نحن لا نخشى ضياع الحكاية بل نخشى باب السجان، نحن من نؤجل الحياة وليست هي من تعرض عنا، يمكن للإنسان أن يعيش وحشاً وسعيداً في ذات الوقت فجهازه العصبي خامل عن إشعاره بالندم، يقضي أيامه متسائلاً عن الضمائر وينسى المحاسبة، ينسى أنه لا شيء يشجع المرء على التطاول في مجازره كترك جريمته الأولى دون عقاب!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.