يبدي ناشطو فيسبوك في الحديث عن التعددية الدينية فخرا مستنيرا بالعرفان الحداثي ونفاجة عادلة بسبق المتأخرين وغرورا مسالما بلمع الأفكار، ومهما يكن فقد أتاحت المنتديات رحابة وبحبوحة وحرية للتوسع في الكلام على الأديان والحوار الواجب فيها.
على أن الكلام على التعددية الدينية قديم ضارب في تاريخ التأليف، فأبو العباس أحمد بن إسحق اليعقوبي من مؤرخي القرن الثاني الهجري دوّن في تاريخه بعض مقالات التعددية من التراث اليوناني في سياق حديثه عن أصحاب زينون "وهم السوفسطائيون"، ثم أتى بعده الإمام ابن حزم من علماء القرن الخامس الهجري وناقش هذه الآراء وسبر أغوارها في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل".
وقد اجتهد ابن حزم، وهو "منجنيق الأمة" –كما لقبه ابن تيمية-، فنسف هذه الآراء في بحث جعل عنوانه "الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة" ووفاها تفنيدا وبهرجة، ولي مع هذا النص رحلة طويلة وسأستفيض في هذا إن شاء الله. كذلك لا يخفى على أحد أن أساس نشأة المعتزلة في بدايات القرن الثاني الهجري كانت مسألة المنزلة بين المنزلتين.
وليس في خطتي أن أبني مقالاتي عن "التعددية الدينية" على اصطلاحات المتخصصين، ولا أن أبوّب على مباحثهم، وليس سبيلي أن أستنسخ دروسنا في الجامعة التي تحفل بالتنظير، لكن سيرجع نقاشي إلى واقع الحوار في التعددية بين الشباب وأسئلتهم وإسهاماتهم ثم تثويرها ومناقشتها بما تيسر. والشائع أن الثقة المفرطة في مقولات التعددية الدينية عند الشباب في شرق وفي غرب فرع على ضعف الثقة بالمؤسسات الدينية وأدبياتها التقليدية. نعم قد توالت الأخبار وتواتر بعضها عن انحرافات في المؤسسات الدينية، أفلا يصح –والحالة هذه- أن نمنح فرصة أخرى للمراجعة وإعادة قراءة مشاهدات وحوارات في هذا الباب، فقد نتيح لمقولات التعددية الدينية استئنافا في الحكم عليها بأنها:
– اندفاع ساذج في شجب الأديان والملل بما أنها "متساوية في البطلان".
– رعونة واستهانة بقيمة البحث عن الدين الحق رضا بمقولة "أنيقة" عن "تساوي الأديان في الصحة".
– نزعة إلحاد وانحراف متعمد.
الانفتاح على مقولات التعددية الدينية شائع عند هواة الارتحال، وعشاق المفاجأة والدهشة، وأولئك الذين لديهم رغبة لا تخفت في جمع أكبر عدد من لحظات السعادة حتى ولو بالاقتراض الثقافي |
1- فقد تنامت الثقة في مفاهيم التعددية الدينية مع تنامي فرص الخطاب والحوار عبر وسائط التواصل السيبرانية، فانتقلت خطة التعددية من صيغها السياسية والاجتماعية التي تؤكد على التعايش والتسامح والتفهم للخلاف والمواءمة، إلى صيغ فلسفية تناقش "نسبية الحقيقة الدينية" و"أوهام الخلاص الحصري" وتفسير العدالة الإلهية. ويرجع ذلك إلى أن الحوار زاد الشعور بوفرة القداسة وعالمية جهود أصحاب النوايا الحسنة ومحبي السلام وتجاوز فيض اليقظة والوجد للأطر الثقافية والتشريعية.
وأذكر بأن علماء الغرب لم يندفعوا في دراسة الأديان إلا بعد أن أخذهم عصر الاكتشافات والرحلات إلى رؤية بشر آخرين يعرفون الله أيضا ويقيمون علاقة شديدة التوهج والعمق مع الغيب خارج أطر مسيحية لم يكونوا في الغرب يعرفون غيرها، في هبوط اضطراري من برج التطورية الاستعلائية في صيغتها الغربية إلى واقع النسبية الثقافية والتسليم بخصوصيات التاريخ والاجتماع ومعطيات علم الأناسة وإنجازات الأنثروبولوجيا.
2- الانفتاح على مقولات التعددية الدينية شائع عند هواة الارتحال، وعشاق المفاجأة والدهشة، وأولئك الذين لديهم رغبة لا تخفت في جمع أكبر عدد من لحظات السعادة حتى ولو بالاقتراض الثقافي، وهو اتجاه براغماتي في محاورة الأفكار يدل عليه تنامي مشاريع ومحاضرات ناشطي التنمية البشرية التي تقترض هي أيضا من الأديان الشرقية.
3- في إحدى رحلاتي لزيارة المعابد الدينية بجزيرة بينانغ شمالي ماليزيا، حظيت بسائق لديه فائض من المشاعر الدينية، صلى خاشعا بالمعبد البوذي "كي لوك سي" أو "معبد النعيم المقيم"، فلما حللنا بالمعبد الهندوسي "سري ماريامان" كانت صلاة لا تقل خشوعا عن صلاته الأولى، فسألته: وما يكون دينك إذن؟ ففاجأني: كاثوليكي. داعبته بالدعوة لصلاة الجمعة، فاعتذر بأنه يدرك ويقدر أن الإسلام أكثر صرامة من أن يدخله في هذا الكوكتيل من الطقوس والتبركات. وسيكون هذا موضوع المقال التالي.
ثم علل لي صلواته، فأما صلاته البوذية فقد جامل بها روح أبيه، وأما الهندوسية فقد كانت تحية لذكرى جدته.. إلخ، والخلاصة أنه قد تجاوز في تصوره للتعددية الدينية جدل الأفكار إلى الممارسة الحرة لأديان مرنة، وكشف عن زهد في الجدل بشأن الجوهر العقلي للإيمان وإعراض عن فحص التجارب، واستهانة بتكلف البحث عن الحقيقة، ربما لأنها لا وجود لها في ظنه خارج طقوسه، أو لأن الحقيقة -عنده- ثرية سخية تحل في صيغ شتى. تعلمت من هذا السائق أن كل إنسان قادر على أن يتفلسف ويبرر حتى وإن لم تكن له لحية كثة كلحية المعلم أوشو.
4- في المعابد الهندوسية بجزيرة بالي يبدي الأوروبيون ما هو أبعد وأعمق من الرغبة في التعرف على التجارب الروحية في الأديان الشرقية، فلو شاهدت الإقبال على الغطس والتبرك في الماء المقدس بمعبد تيرتا أمبول لرأيت حالة من الشعور بثراء المعنى ومحاولة لاستبطان الطقس والإلحاح في مناجاة شيء ما لا يخطئه الحدس وإن طمرت معالمه تسارع معدلات الحداثة.
إن ضعف الثقة بالمؤسسات الدينية لم يقتل الشعور الديني والحنين إلى الإيمان والأمل في فرصة أخرى للتواصل مع الغيب، وقد حولت الصدمة في القدوة الدينية أنظار الشباب في الغرب إلى التجربة مع ممارسات دينية أخرى مع الاحتفاظ بما يراه المرء من مفردات هويته. والتعددية الدينية في هذه الحالة هي تعبير عن التعلق بالدين حتى آخر رمق، والرغبة المستمرة في استنفار الكائن الروحي الكامن داخل الإنسان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.