شعار قسم مدونات

وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ

مدونات - واعبد ربك

ضعفٌ وراءَ ضعفٍ، ضياعٌ وراءَ ضياعٍ، بكاءٌ وراءَ بكاءٍ، فقدانُ أملٍ عميقٍ، تتركُ كلَّ شيء وتأتي بنفسِك كي تعلِنَ استسلامك. تجلسُ مع نفسِكَ بُرْهة مِنَ الزّمنِ وتخاطبُ نفسَكَ وتهمِسُ لها: أنّك ستتغيّر، وأنك لَمْ تَعُدْ تريدُ شيئًا، أحلامُكَ التي راودتك منذ عمرٍ صغيرٍ لسببٍ وإلهامٍ وظروفٍ معيّنة، ستمسكها براحة يديك وتقول لها: (قَدْ جَرَتِ الرّياح بما لا تشتهي سفينتُنا). تريدُ أن تمسكَ نفسَكَ وتلومَها على كلِّ مرّة قرَّرْتَ فيها أنْ تكونَ طموحًا وثابتًا على مبدئك. سأُمسِكُ نفسي وألومها على كلّ مرّة قلْتُ فيها أنّي سأقدّم العَوْنَ دائمًا، لكنّي الآنَ قَدْ وضعتني الحياةُ في معركة باردةٍ مع نفسي، وأصبحتُ بحاجةٍ إلى كلّ العَوْنِ، وبحاجةٍ إلى كلّ الحبّ، وبحاجةٍ إلى كلّ الوقتِ، وبحاجةٍ إلى نفسي كذلك.

يقول أبو الطيّب المتنبّي: مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ. ولكنّنا رَغْمَ كلِّ شيء تحمّلْنا مسؤوليةَ أحلامنا. وكنّا شغوفينَ مُخلصينَ مُنْذُ البدايةِ. كنّا مسالمينَ، والسّعادة المتواضعة تبدو على تقاطيعِ وجوهنا، كنّا وحدنا مع أنفسِنا منعزلون عن إحباطاتِ البشريّة. حتّى عُرِفَ عنّا الهدوءُ والجمالُ الدّاخليّ والإرادةُ والشّغفُ. اليومَ، وفي مَحضِ الانهزامِ، ندرِكُ أنَّ الحياة ليست بتلكَ السهولة، وفي مَحضِ رغبتنا بالاستسلام لليأسِ والإحباط، فإنَّ قلبي وعقلي يستحضرانِ الآيةَ -99- من سورةِ الحجر: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ". آيةٌ تُشْعِرُكَ أنَّ كلَّ شيء مع اللهِ ممكنٌ. آيةٌ تردُّ لكَ روحك وتردُّ لكَ الأملَ والإيمانَ، وتردُّ لكَ أمورًا كثيرةً كنْتَ قدْ فقدْتَها. أشعر بكَ يا صديقي، أشعرُ كم أنَّ الحياةَ ظلمتكَ، وكم سلَبَتْ منكَ الكثير وأدري أنَّكَ لم تعد تحتمل.

"وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" وقعَتْ على مَسْمعي بطريقةٍ لطيفةٍ هدّأَتْ من روْعي، وطمأنَتْ قلبي، وأنزلَتْ السكينةَ على نفسي، وترتّبتِ الأمورُ في نظري.

لكنّ عجلة الكونِ لا زالت تدور، ولَنْ تقف الحياةُ يومًا على فرحك أو حزنكَ، فإنّما أنت كائنٌ صغيرٌ في الكون الأكبرِ. كانَ داروين يحاولُ أنْ يقولَ لنا عن نظريةٍ ما تسمّى بالانتخاب الطبيعي وكيف أنَّ البقاءَ للأقوى. أنا لا أؤمن بالنظرية بحدّ ذاتها، لكنّي أؤمنُ أنَّ فعلًا الحياةَ تريدُ الأقوى.. لا يجوزُ لكَ أنْ تكونَ شخصًا هشًّا ورقيقًا أو حتى أن تكونَ كثير الشكوى. عليكَ دومًا أن تبدوَ كأنَّكَ أكثرَ الأشخاصِ صلابةً وقسوة، أنْ تبدوَ لا مباليًا قطّ، ألّا ترخيَ شفتيْكَ أمامَ أكثر الأمورِ لينًا، كن هكذا كجنديٍّ شجاع قرّرَ أنْ يخوضَ حربًا وظلَّ يقاتل ويقاوم حتى سقط على نفسهِ واقعًا، لكنّه مات شغوفًا حالمًا. البقاءُ للأقوى دائمًا؛ الذي تترقرقُ عيناه ويتزلزلُ قلبه، الذي تبدو عليهِ ملامح الغموض والتخبّط غير المفهوم، الذي يسعى إلى الحياةِ، ولا يزال يسعى ويسعى، الذي لا زال يحاول العودة والرجوع إلى ذاته، إلى نفسه، إلى سابقِ عهده. الذي لا يجدُ ما يُواسيهِ في هذا الكونِ الضيّقِ الصغير، ولا يجدُ سبيلًا إلى جبْرِ قلبهِ.

إنّ المجدَ ليس لأيِّ شخصٍ؛ إنَّما المجدُ والنصرُ لأكثر النّاسِ صبْرًا، وأكثرهم انهزامًا، وكسْرًا. وأنتَ يا صديقي ضحيّةُ السعادةِ التي لا تكتمل.  إيّاكَ يا صديقي أنْ تضعف، كن مشرقًا، ولا تحدِّثْ أحدًا عن أحزانِكَ العميقة، وأَرِحْ عقلَك اللطيفَ كي تستطيع الإبداع؛ تقولُ أدريانا ليسبوا: "تبدو الأمور أقل فداحةً حينما تمعنُ النظر فيها عن قُرْب، فتفقدُ تلك القداسة التي نغلفها بها، وتصبح عاديّة، لا شية فيها. وتتبدد المسافة بينها وبين الفكرة التي كنّا نصيغها حولها". إنَّ ربَّكَ عادلٌ يا صديقي، عادلٌ كثيرًا، فهو معك أينما حططْتَ وأينما رحلْتَ. فهو يسهّل أمورَك وأنتَ لا تعلم، ويهيئ لكَ الأسباب والأشخاص وأنتَ لا تعلم، ويشدّ من عضدك وأنتَ لا تعلم، ويكتبُ لكَ السعادةَ وأنتَ لا تعلم. "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" وقعَتْ على مَسْمعي بطريقةٍ لطيفةٍ هدّأَتْ من روْعي، وطمأنَتْ قلبي، وأنزلَتْ السكينةَ على نفسي، وترتّبتِ الأمورُ في نظري، وتجلّتِ الحقائقُ، وعرَفْتُ نفسي، واستغنيْتُ عن كلِّ عبادِ الله، لكنّي كنْتُ غنيّةً بالله فقط. "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ". ذاك اليقين الذي يجعلك تشعرُ أنَّ كلَّ شيء سيُمسي واقعًا. والتعبُ كلّه سيهون. صحيحٌ أنّكَ بكيتَ كثيرا، وصحيحٌ أنّكَ تشعرُ بالثّقلِ كثيرًا. ولكنّ آيةً ما تأتي من بعيد وتطمئنك، آية دافئة: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ". فاصبرْ صبْرًا جميلًا ولا تكنْ بدعاءِ ربّكَ شقيًّا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.