شعار قسم مدونات

الانتحار.. ولُقاح الحياة الأخير!

blogs الانتحار

واقفٌ على حافة الهاوية، قدمٌ على الأرض وأخرى في الهواء، عيناه تُحدق في اللاشيء القابِعُ في الأسفل، لكن هذه المرة لا دُموع فيهما، لم يخفِق قلبه خوفاً للمرة الأولى في حياته. بدأت مراسمُ حفل الخِتام، وبدأ بالبحث مُطولاً في حياتِه السابقة عن شيء ما، لم يكن يعرف حقيقة عمّا يبحث، هُناك شيء ما ينقصه وحسب. وللأسف بعد بحثه المُطوّل لم يجد ما يشُدّه ليتراجع عن الحافة. يقولون عند الموت يُسترجع شريط الحياة كاملاً في ثوان، ثم تتجهُ إلى النور في نهاية النفق، حتى ذلك النور كان مُعتماً عندهُ، التردد صديقه مُنذ الصغر، تردد حين اختار مُحيطه، تخصصه، أصدقاؤه، مساره الخاص، عمله الذي لا يُحب، زواجه التقليدي، وقتله تردده حين رفض أن يزور طبيباً نفسياً حين شعر بحاجته إليه.. لم يتردد للمرة الأولى والأخيرة حين اختار نهاية المشهد، كان القرار حاسماً، أخذ نفساً عميقاً وقفز إلى الهاوية. صباح اليوم التالي تحققت أحلامه مُجتمعة، أصبح مشهوراً في الصُحف والمواقع الإلكترونية، محبوباً من الجميع يتعاطفون معه -وهو الذي ماتَ بينهم دون أن يُدرك أحدهم ذلك-، أصبح الجميع مُهتماً به، وتحديداً بمقعده في الجنة أو النار.

هل نحن أفضلُ من سيدنا المسيح عليه السلام؟ لا أظنّ، بل النفي المُطلق هو الجواب، لذلك فلنتفق أن نحذو حذوه حين سأله الله عن قومه الذين اتخذوه آلهة مع الله فأجابه بمنتهى الأدب: "إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"، وهُنا سندع تصنيف ضحايا الانتحار بين جنة ونار إلى الرحيم علّام الغيوب. وبالعودة إلى الانتحار، أمعنتُ النظر مؤخراً في عدد من قصص المُنتحرين، لعلّي أجد فيهم سبباً مُشتركاً جذبهم إلى ذات المصير، وإلى ذات اللقب.

لا أدري الى متى سيكون الطب النفسي من الكماليات في مجتمعنا، ولا أدري إن كانت الانتباه لنداءات الاستغاثة الأخيرة سيكون مُمكناً، ولكن إن كنتم ذوي قُدرة على تقديم "لُقاح الحياة الأخير" فلا تبخلوا

في المقام الأول، لم يكُن الفقر سبباً، فمُنسق الأغاني المشهور أفيتشي، مات مُنتحراً في سلطنة عُمان العام الحالي بطريقة درامية، فقد كان يبدو للجميع أنه يحظى بحياة صاخبة، مُثيرة وتتسم بالثراء والرفاهية. أمّا عن نقص الوازع الديني، فعزوز بوطبة وحسين الحيدري ارتمت أجسادهم المُثخنة بالهموم على بلاط الحرم المكي الشريف قفزاً من الطابق الثالث لصحن الطواف، انتحار في أشرف بقاع الكون، تماماً عقب صلاة في مكان تُعادل صلاته مئة ألف صلاة.

إن كنتم تظنّون الوحدة هي السبب، فالفتاة المصرية "أميرة يحيى" تمتلك ثلاث إخوة ووالدهم حيٌّ يُرزق، وكانوا مُبدعين في زجّ فكرة الانتحار في رأسها بمُعاملتهم السيئة والضرب والتوبيخ بعد وفاة والدتها، لينتهي المطاف بها تقفز أسفل عجلات القطار في محطة "ماري جرجس". كُنت على مُشارف اعتبار الهامشية في الحياة، عدم وضوح الدرب أحد الأسباب، قبل أن تقفز إلى ذهني قصة "هيث ليدجر" جوكر هوليوود الذي انتحر في قِمة شُهرته وعالميته، بل استمر الاهتمام به ليفوز بجائزتي الأوسكار وغولدن غلوب بعد انتحاره بعام تقريباً عن دوره في فيلم باتمان الذي سبق انتحاره وكان نجاحه ساحقاً، واستلمت والدته والمخرج كريستوفر نولان الجائزتين.

وهُنا مربط الفرس، لا سبب واضح.. كُل ما سبق وغيره من الاكتئاب، الانعزال، التنمر، المخدرات والكحول، العلاقات الفاشلة، الفصام، الاضطراب الاجتماعي.. تلعب دوراً رئيسياً في دفع الشخص إلى حدّ التحمل الأقصى وتغرس فكرة الانتحار في صُلب رأسه. ولكن ثمّة عاملٌ مُشتركٌ بينهم جميعاً.. قبل أن تنضج فكرة الانتحار التي تُطبخ في رأس أحدهم وتكون جاهزة للوجبة الختامية، يُحاول المنتحر للمرة الأخيرة أن يستجدي المُساعدة، هي استجماعٌ لما تبقى من فتات رغبته في الحياة، لُقاح الحياة الذي رُبّما يكون ملاذه الأخير. جميعهم حاول أن يأخذ جرعة الدواء تلك بطريقة ما، أفيتشي مثلاً كتب لجمهوره في عام 2016، أي قبل عامان من انتحار حين اعتزل الحفلات الغنائية: "لم يتبقَ سوى القليل جداً في هذه الحياة لشخص حقيقي يختبئ وراء الفنان"، وراسل والدته قبل الانتحار قائلاً أنّه "لم يعد يحتمل المزيد، لا يُطيق الاستمرار ويريد السلام".

الانتحار عرضٌ وليس مرضاً، وهُم ضحايا أكثر من كونهم مُذنبين، وحين يصل بهم المطاف إلى حافة الهاوية يتركون المال، الشهرة، والأطفال والزوجة والعمل.. ويسدلون ستار المشهد الأخير دونما رجع
الانتحار عرضٌ وليس مرضاً، وهُم ضحايا أكثر من كونهم مُذنبين، وحين يصل بهم المطاف إلى حافة الهاوية يتركون المال، الشهرة، والأطفال والزوجة والعمل.. ويسدلون ستار المشهد الأخير دونما رجع
 

بوطبة – الذي قفز من ظهر الحرم في العمرة – حاول أيضاً بذات النداء، حيث يروي العيد بوطبة – ابن عمه -: "كان عزوز مُتأثراً جداً بوفاة والدته، وتمنَّى منذ سنوات زيارة مكة، والوفاة بها، والدفن بجوار والدته" وكان يسمع منه هذه الأمنية. الحيدري – الحاج المنتحر في الحج منذ أشهر – كان يتكلم مع ذاته بصوت مُرتفع دوماً، ويسير مُردداً عبارة "أريد أن أرى ولدي، خذوني إلى ولدي"، فهل نريد نداء استغاثة أكثر تصريحاً من هذا.

إن كان جوابكم نعم، فأميرة يحيى صرّحت بذلك مُباشرة، وغادرت المنزل بعد أن أخبرت إخوتها صراحة أنها ستُقبل على الانتحار، وبدورهم ظنوه نوعاً من المُزاح. في اللحظات الأخيرة، جميعهم حاول أن يتمسّك بالحياة، ولكن لا حياة لمن يُنادون، لم ينتبه أحد إلى ندائهم اليائس، خُذلوا جميعاً.. بل لنقل أننا خذلناهم جميعاً، ولو أبدعنا في احتواء المُنتحر كما نُبدع في تصنيفه بين جنة ونار لم يكن ليُصنف مُنتحراً أصلاً.

أدري أن بعضكم لن تروق له هذه الحُروف وسيظنها تعاطفاً مُبالغاً به مع من يقتلون أنفسهم ولا يستحقون نفخة الروح الإلهية فيهم، لهؤلاء أقول.. الانتحار عرضٌ وليس مرضاً، وهُم ضحايا أكثر من كونهم مُذنبين، وحين يصل بهم المطاف إلى حافة الهاوية يتركون المال، الشهرة، والأطفال والزوجة والعمل.. ويسدلون ستار المشهد الأخير دونما رجعة. ختاماً، لا أدري إلى متى سيكون الطب النفسي من الكماليات في مجتمعنا، ولا أدري إن كانت الانتباه لنداءات الاستغاثة الأخيرة سيكون مُمكناً، ولكن إن كنتم ذوي قُدرة على تقديم "لُقاح الحياة الأخير" فلا تبخلوا به مُطلقاً فالحرف قد يكون ترياق الحياة أحياناً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.