شعار قسم مدونات

ماجد عرسان الكيلاني.. المفكّر الذي استطاع بناء أسس التغيير

blogs ماجد عرسان الكيلاني

ترك لنا المفكّر التّربوي ماجد عرسان الكيلاني كنزا ثمينا لا يُقدّر بثمن، وسيوافقني في هذا الرّأي كلّ من قرأ كتبه أو أحد كتبه فقط، فكلّها تسير في مسار واحد مهمّ له وزن مهمّ في قلب المعادلة في أيّ مكان وزمان.. وأعني بهذا التّربية والتّعليم. أعتقد شخصيا أنّ الأفكار الّتي شرحها الدّكتور ماجد الكيلاني في كتبه هي أفكار متكاملة كافية لوحدها لتقدّم منهجا تعليميا جديدا في العالم الإسلامي، فهي ليست أفكارا مرتّبة فقط، بل هي أفكار ملائمة لهذا العالم كُتبت لأجله. ولو كان هناك شخص قادر على إصلاح مناهج التّعليم البالية في بلداننا فلن يجد أفضل من اتّباع منهج هذا المفكّر.

هناك أربعة كتب أعتبرها سلسلة كاملة ومتكاملة لفهم نظريات المفكّر ماجد الكيلاني القادرة على تغيير مفهومي التّربية والتّعليم، وكيف أنّ تلك النّظريات مقنعة تستحقّ أن يتمّ اختبارها وتطبيقها، وتلك الكتب هي: فلسفة التّربية الإسلامية، وأهداف التّربية الإسلامية، والتّربية والتّجديد، والفكر التّربوي عند ابن تيمية. اختيار هذه الكتب لا يقلّل من قيمة بقيّة الكتب الّتي كتبها المفكّر، لكنّني سأركّز في مقالي هذا على ما جاء في هذه الكتب الّتي ذكرتها.

في حديثه عن التّربية الإسلامية، استطاع المفكّر ماجد الكيلاني أن يمسّ جميع الجوانب المحيطة بها وأن يبسّطها للقارئ ليفهم كيف أنّ التّربية لها أثر هامّ على جميع جوانب الحياة، وكيف أنّ عدم تطبيق التّربية الإسلامية على شعوب العالم الإسلامي هو سبب رئيسي في ضياعها وشعورها بالاغتراب. فالتّربية الإسلامية متفوّقة على أيّ نوع آخر من التّربية حتّى تلك المعاصرة، وذلك لأنّ التّربية الإسلامية تعلّم الإنسان كيف يتعامل مع خالقه، مع البشر حوله، مع الطّبيعة الّتي يعيش فيها والظّروف الّتي تصاحبها، ثمّ مع حياته بعد موته وخروجه من هذه الدّنيا.

 

إنّ الحضارة الغربية تتّجه نحو السّقوط، فمنذ أن بدأت الحرب على الكنيسة وانفرد العلم بالسّير بالحياة هناك، لم تعد هناك قيمة روحية للأشياء بل صارت الحياة عبارة عن مادّيات

وكمثال بسيط على تفوّق التّربية الإسلامية، يعطينا ماجد الكيلاني درسا مهمّا في أثر تكامل العلوم الدّينية والعلوم الكونية وكيف أنّهما مترابطان بحيث إن انفصلا فسينتج عنهما انهيار الحضارات، وهو ما حصل مع الحضارة الإسلامية الّتي سقطت منذ أن بدأ الجمود يسيطر على التقدّم العلمي فصار هناك تنافر حادّ بين العلم الكوني والعلم الدّيني، بل ذهب بعضهم إلى اعتبار أنّ العلم هو المقصود به العلم الشّرعي فقط، وغيره فهو علم لا ينفع. وعند هذه النّقطة ندرك ما يفتقده العالم الإسلامي من إعادة القيمة الحقيقية للعلوم بمختلف أنواعها، فالله حينما طلب منّا التأمّل في آياته مرارا في القرآن لم يكن ذلك عبثا، وحينما علّمنا أنّ مهمّتنا على الأرض هي إعمارها لم يكن ذلك عبثا، وحينما حذّرنا من قتل الإنسان وعلّمنا أنّ من أحيا نفسا فكأنّما أحيا النّاس جميعا لم يكن ذلك عبثا أيضا، فكلّ هذه الأوامر من الله تدلّنا على أنّ طريق العلم هو طريق يحثّنا الله عليه، يريدنا أن نفهم هذا الكون الّذي خلقه، ويريدنا أن نخترع كلّ ما من شأنه أن ييسّر حياتنا على هذه الأرض، ويريدنا أن نتطوّر في فهم أجسادنا وعقولنا لننقذ البشر من الموت، سواء الموت الرّوحي أو الجسدي.

 

وبنفس الطّريقة نرى كيف أنّ الحضارة الغربية تتّجه نحو السّقوط، فمنذ أن بدأت الحرب على الكنيسة وانفرد العلم بالسّير بالحياة هناك، لم تعد هناك قيمة روحية للأشياء بل صارت الحياة عبارة عن مادّيات فقط على البشر أن يتهافتوا عليها ويشبعوا منها قدر استطاعتهم، لعلّهم ينسون فراغهم الرّوحي. وبسبب محاربة العلم للدّين خرجت نظريات تافهة تحاول تفسير الكون، أسخفها نظرية داروين الّتي لا يستطيع أيّ ملحد أن يقنع ولو طفلا صغيرا بصحّتها.

من المفاهيم المهمّة الّتي تحدّث عنها الدّكتور ماجد الكيلاني هي مفهوم العمل الصّالح، فهذا العمل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: فهناك عمل ديني صالح، وعمل اجتماعي صالح، وعمل كوني صالح. وهذا العمل، كما ذكرنا من قبل، لا ينحصر في الإنتاج المادّي فقط كما ترى التّربية المعاصرة، ولا يمكن أيضا حصره في العبادات والأخلاق الفردية. لهذا العمل الصّالح محوران رئيسيان: أن يكون عملا يجلب المنفعة للإنسان ويقوده لرضى الله، وأن يكون عملا يدفع الضّرر عن الإنسان ويبعد عن كلّ ما يغضب الله.

 

وذاك الّذي يقوم بالقسمين معا هو صالح ومُصلح، وهو ما يحتاجه أيّ مجتمع للنّهوض والتقدّم، فالأمم الّتي تضمّ أفرادا صالحين ومصلحين لا يلحقها الخراب، إنّما يلحق بتلك الأمم الّتي تضمّ أفرادا صالحين في أنفسهم، لكنّهم لا يسعون للإصلاح. أعتقد أنّ هذا المفهوم الّذي يجب قراءة كتاب "أهداف التّربية الإسلامية" لفهمه، هو مفهوم غاية في الأهمّية، فهو يثبت أنّ الفرد إن ظنّ أنّه بإصلاح نفسه، سواء في عباداته أو أخلاقه، قد أوفى ما عليه فهذا يعني وقوعه في وهم كبير يعيشه طوال حياته.

كتاب الدّكتور الكيلاني المشهور
كتاب الدّكتور الكيلاني المشهور "هكذا ظهر جيل صلاح الدّين وهكذا عادت القدس" هو كتاب آخر رائع من روائع ما قرأت، فقراءته تشبه العيش في عالم صلاح الدّين منذ ظهوره حتّى تحريره للقدس
 

يرى الدّكتور ماجد عرسان الكيلاني أنّ التّربية الإسلامية يجب أن تهتمّ بنقاط مهمّة لتقوم بمهمّتها على أكمل وجه، وتلك النّقاط هي كالتّالي: تنمية القدرات العقلية للفرد؛ تربية الفرد على تعشّق المثل الأعلى، حيث يكون هذا المثل نموذجا سليما؛ تنمية الخبرات الدّينية والاجتماعية والكونية للفرد؛ تربية الإرادة عند الفرد مع أهمّية عدم حصرها في الشّهوات فقط؛ وتنمية القدرات التّسخيرية عند الفرد.

في كتابه بعنوان "الفكر التّربوي عند ابن تيمية"، أوضح الدّكتور ماجد الكيلاني أنّ هذا الشّيخ المفكّر كان ولازال مجدّد الهمّة حينما يتعلّق الأمر بالتّربية وبالإصلاح. فعدا أنّ معظم الحركات الإصلاحية الّتي قامت اعتمدت في مناهجها على نتاج ابن تيمية، كان هذا الشّيخ قادرا على كسر الجمود الّذي أصاب العلم الشّرعي الإسلامي ولازالت أفكاره قادرة على إحياء هذه الأمّة إن تمّ الاعتماد عليها لبناء حركات إصلاحية أو تربوية. لن تكفي هذه السّطور لوصف ابن تيمية بما يكفيه حقّه، ولن تكفي الكتب الّتي تحدّثت عنه، لكنّني أنصح بشدّة بقراءة كتاب الدّكتور ماجد الكيلاني عنه، فهو كتاب قدّم لنا منهج ابن تيمية التّعليمي التّربوي في أبهى حلّة.

كتاب الدّكتور الكيلاني المشهور "هكذا ظهر جيل صلاح الدّين وهكذا عادت القدس" هو كتاب آخر رائع من روائع ما قرأت، فقراءته تشبه العيش في عالم صلاح الدّين منذ ظهوره حتّى تحريره للقدس من أيدي الصّليبيين، لكنّ أهمّ استنتاج يخرج به القارئ هو أنّ صلاح الدّين لم يكن وحده، فكما يقول عنوان الكتاب، كان جيلا تكاتف وتكاملت أدوراه لتحقيق ذلك الإنجاز في ظلّ ظروف صعبة كانت تمرّ بها الأمّة الإسلامية. هو كتاب يثبت أنّ فكرة انتظار البطل لحلّ مشاكل العالم الإسلامي هي فكرة واهمة، فإن لم تكن هناك حركة تربوية سليمة لخلق جيل واع كيف يتحرّك، فلن يفيد ظهور صلاح الدّين المنتظر. كانت هذه لمحة بسيطة عمّا تركه لنا الدّكتور ماجد الكيلاني الّذي انتقل إلى رحمة الله قبل حوالي ثلاث سنوات، ولعلّ أكثر ما أتمنّاه هو أن أرى تطبيقا لشيء من مفاهيمه على أرض الواقع، فهي مفاهيم قادرة على تغيير الكثير. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.