كما هو معلوم فإن الأفكار، وشبكة الوعي التي تصنعها، لا تعرف ولا تعترف بالحدود الجغرافية، وهذا ما يرينا في النهاية أشخاصاً متماثلين في الأفعال التي يقومون بها رغم تباعد المسافات فيما بينهم، ولأن المغمورين من أمثالنا لا يكاد يلتفت إليهم أحد فإن هذه الظاهرة تتجلى بشكلها الأوضح في أفعال المشاهير الذين تُحصَى كلماتهم وتُراقَب أفعالهم.
تذكرت هذا وأنا أقرأ آخر ما تناقلته وسائل الإعلام من حديث بشار الأسد عن أن سورية ربحت مجتمعاً متجانساً. ويبدو لي أن مفهوم التجانس المقصود به صناعة المجتمع المطيع المؤمن بالسردية الرسمية للنظام أو المدعي للإيمان بذلك، وأهم ما في الأمر التصرف وفقاً لهذا الإيمان صحيحاً كان أم زائفاً. غير أن هذا السعي الدموي نحو التجانس المنشود ليس حكراً على بشار الأسد، بل هو جزء من شبكة الوعي العابر للحدود لكل الديكتاتوريين، وفي صدارة القائمة بالطبع دكتاتور إرتريا أسياس أفورقي. المتابع لمجريات الأحداث لن ينفق الكثير من الوقت والجهد ليكتشف أن هذا الأخير يشارك بشار هدفه، لكنه يعمل عليه دون أن "ينال" حظه من التغطية الإعلامية التي حولت سوريا لبؤرة الإعلام العالمي في السنوات الأخيرة.
أسياس أفورقي يحكم إرتريا منذ الاستقلال 1991 حتى اليوم، والبلاد في عهده "المجيد" محرومة من كل مقومات الحياة السياسية الصحية والسليمة، لا برلمان في البلاد ولا دستور، الأحزاب ممنوعة، الإعلام المستقل ممنوع، لا نقابات، القضاء تابع للجهاز للتنفيذي، وكل ما ذكر جزء من صناعة الفضاء السياسي وهو قابل للتغيير مع تغيير النظام، لكن أخطر ما يتم العمل عليه الآن في إرتريا هو عملية التنقية والتجانس.. التلاعب بديموغرافيا البلاد.
مبدئياً إرتريا تتكون من عنصرين مسيحي مسلم، ولغوياً من تسع مجموعات لغوية، تشكل خريطة بشرية غنية لبلاد حديثة العمر، وهذه الخريطة بدأت بالاختلال إبان الاحتلال الإثيوبي وحرب الاستقلال الطويلة، حيث أدت سياسة حرب الأرض المحروقة الإثيوبية إلى تشريد مئات الآلاف من السكان إلى البلاد المجاورة، ويمكن القول إن أطول فترات حرب التحرير كانت في المناطق ذات الأغلبية المسلمة من البلاد، وبالتالي فقد كان الجزء الأكبر من النازحين منها.
حالة التضييق الأمني على الإرتريين من خلال أجهزة الأمن التي تمارس الاعتقالات والتغييب القسري لأسباب سياسية تتعلق بشبهة المعارضة للنظام الحاكم من أي طائفة كان المعتقل |
بعد التحرير كان أول ما يمكن الحديث عنه من البدهيات هو عودة اللاجئين الطوعية إلى البلاد، وهذا ما حدث جزئياً، لكنه توقف، ولنفس السبب وقع أمر أغرب فقد حدثت حالة كبيرة من العودة المعاكسة، أي العودة إلى المعسكرات، والسبب أن خيار العودة كان "شبه مستحيل بسبب غياب التنسيق والتعاون بين الحكومة الإرترية والأمم المتحدة. وحتى الذين عادوا منهم طوعياً بعد الاستقلال لم يجدوا الوسائل والإمكانيات التي تساعدهم على الاستقرار والعيش في وطنهم، فكان أن عادوا مرة أخرى إلى السودان" بحسب موفدة الأمم المتحدة إلى معسكرات اللاجئين.
خلفية السكان المسلمة أولاً، والاشتباه بانتماءاتهم إلى تنظيمات سياسية منافسة للجبهة الشعبية الحاكمة إبان فترة الكفاح المسلح، كانا سبباً كافياً لدفع النظام الحاكم إلى التضييق عليهم والعمل على تقليل نسبة العائدين بكل الطرق، بالإضافة إلى أن غياب هؤلاء عن أراضيهم يتيح للنظام فرصة إعادة تكوين الخريطة الديموغرافية للبلاد.. وهكذا بدأ التطبيق العملي لفكرة صناعة إرتريا المتجانسة مبكراً.
حالة التضييق الأمني على الإرتريين من خلال أجهزة الأمن التي تمارس الاعتقالات والتغييب القسري لأسباب سياسية تتعلق بشبهة المعارضة للنظام الحاكم من أي طائفة كان المعتقل، ولأسباب دينية تتعلق بالمسلمين الذين اعتقل منهم الدعاة والشيوخ ومدرسو اللغة العربية، وبطائفة شهود يهوه نتيجة معتقداتهم السلمية، والذي رافقه التضييق الاقتصادي المعتمد على مركزية إدارة هذا القطاع في أدق شؤونه بيد الذراع الاقتصادية للحزب الحاكم، كان هذان النوعان من التضييق سبباً آخر لخروج الإرتريين من البلاد، حتى العائدين من المهاجر بثرواتهم التي حاولوا افتتاح مشاريع تجارية بها أرهقتهم الضرائب المتعمدة، فعادوا أدراجهم.. إنها إرتريا المتجانسة في طور التشكل.
ثم كانت خدمة العلم بكل ما رافقها الحافز والدافع الأكبر لكثيرين للهروب من البلاد. خدمة العلم في إرتريا قانوناً تمتد لسنة ونصف، لكنها الآن في ظل قانون الطوارئ مفتوحة المدة حتى سمتها هيومان رايتس ووتش بـ"خدمة مدى الحياة"، وقد وصفتها بالمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان بالسخرة، فعسكري خدمة العلم تستخدمه الحكومة لا في الدفاع عن الحدود أو في العمل العسكري المباشر، لا.. بل في العمل الإنشائي والإعماري داخل البلاد، فليس من المستغرب أن تجد المجندين في الخدمة الوطنية يعملون في إنشاء سد، أو رصف طريق، أو في مشروع زراعي، وإن كان متعلماً فمن الممكن أن تجده أستاذاً في مدرسة، في مقابل أجر تافه لا يكاد يذكر، بمعنى آخر هؤلاء الشباب عمالة شبه مجانية لنظام لا يأبه بمستقبلهم.
يضاف إلى ذلك أن الخدمة الوطنية تشمل الفتيات أيضاً، ممَّا يسبب حساسية كبيرة لكثيرين من السكان، حتى ذكرت إحدى الصحف الأسترالية أن هناك من الفتيات من تنتحر حتى لا تساق إلى الخدمة.. لماذا؟ لأن سمعة ظروف الخدمة من الناحية الأخلاقية متردية جداً، حيث تعمل الفتيات كجَوارٍ للضباط، بما كل ما ينطوي على كلمة جوارٍ من معنى.
كل ما ذكر حول الخدمة الوطنية كان دافعاً للشباب للهروب إلى خارج البلاد، ولو تعرضوا لخطر الموت، ومن المعروف أن إرتريا تتعرض لنزيف بشري كبير يبلغ الآلاف شهرياً وأكثر هم من الشباب، وقد وصفت إحدى الدراسات الحال في البلاد بشكل معبر حين قالت: بلد بلا شباب.. إنها إرتريا. ولعل وراء ذلك الرغبة في التخلص من الشباب أخطر الشرائح العمرية على النظام، وعلى فكرة القبول بالتجانس وفق فهمه له، والذي يرتبط بالتجانس السياسي القائم على الطاعة العابرة للطوائف والمجموعات، فرغم أن الظلم الواقع على المسلمين مركب ومضاعف، فإن مأساة التجنيد الإجباري تتكرر فصولها في حياة كل شاب وكل أسرة مهما كانت خلفيتها، والشباب الذي يفر من الوطن معبر عن التركيبة الاجتماعية الإرترية بأوسع أشكالها.
وأخيراً برزت بشكل أوضح عمليات تغيير ديموغرافي وتهجير وإحلال داخل البلاد، من خلال انتزاع الأراضي من أيدي سكانها المسلمين في مناطق مختلفة وإحلال سكان مسيحيين جدد مكانهم، وهو ملف شديد الخطورة اليوم وفي المستقبل ينذر بحرب أهلية حال تغير موازين القوى في البلاد…لكن لا أهمية لذلك فهي إرتريا المتجانسة في طور التشكل.
إن كل ما ذكر وإن كان يشي بالرابطة الفكرية العميقة بين أعضاء نادي الديكتاتوريات، فهو يؤشر لملمح آخر، أن الوطن في عرف هؤلاء ليس لمن يخرج منه، بل لمن يبقى في جحيمه ويدافع عنه، وهو ما يحيلنا إلى عبارة شهيرة أخرى لبشار الأسد، ومع تماهي فكرة الوطن بفكرة النظام بفكرة قائد النظام في أذهان هؤلاء يصبح فهم موضوع التغيير الديموغرافي المؤدي إلى "النقاء" و"التجانس" أكثر سهولة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.