شعار قسم مدونات

الجزائر والعسكر.. هل هو "زواج كاثوليكي"؟

مدونات - جيش الجزائر

يرتبط تاريخ العرب المعاصر بشكل كبير بالعسكرة والجيوش، فلا تكاد تخلو بلاد، من تلك الملكية أو تلك الجمهورية، من تأثير العسكر ودورهم في ظهورها وتطورها السياسي، والجزائر ليست بدعة في الامتداد العربي ولا استثناء، بل قد تكون أكثر تلك الدول تأثراً بوجود وعمل الأجهزة المسلحة. وتمتد علاقتها بتلك الظاهرة لجذور عميقة في التاريخ، وإن كان سياق عسكرتها المعاصر يختلف عن باقي النماذج العربية المعروفة.

لنذهب أبعد في التاريخ، لقد وجدت الجزائر الحديثة وعاشت لمدة ثلاثة مئة سنة تحت سلطة عسكرية بحتة، فقد قدم للبلاد ذات يوم من بداية القرن السادس عشر، بضعة رجال من البحارة العثمانيين الشجعان، بطلب من أهل البلاد، وهم يرقبون الخطر الإسباني المحدق بعد سقوط حاضرة الأندلس الأخيرة. وبعد أن دار التاريخ دورته، ونزولا عند رغبتهم في الانضواء تحت جناح الإمبراطورية العثمانية المهاب، والاحتماء بقوتها من المطامع المعلنة لإمبراطورية شارلكان، ولترسيخ انضمام الجزائر للدولة الإسلامية الجامعة الآخذة في التوسع، بعث الخليفة العثماني، بألفي عسكري للجزائر لتثبيت الحكم وإقامة هيكل الدولة.

سيتوارث أولئك العسكر بفرعيهم الرياس "القوات البحرية" والانكشارية "الجيش البري"، الحكم في الإيالة الغربية، لمدة ثلاثة قرون، كان بداية تعيينهم يأتي من عاصمة الخلافة، إسطنبول. وبعد مضي مائتي سنة وبالضبط سنة 1711، أضحت التبعية شكلية، وبات تعيين الداي الذي يحكم الدولة، يتم بين أفراد المجلس العسكري الذي يدير الشؤون السياسية للبلاد، وتتم تزكيته شكليا من الباب العالي. لكن الثابت أن نظام الحكم كان محتكراً من قبل أوليغارشية عسكرية تركية كانت تَعُد في أقصى وجودها اثنا عشر ألف رجل، فيما تعرضت جموع الشعب من السكان الأصليين للتهميش. وخلال الوجود الفرنسي الذي دام قرناً وثلثا، كان أكثره حكماً عسكرياً مباشراً، ولم يعرف الشعب سوى أولئك الضباط الفرنسيين الذين كانوا يشرفون على شؤونه في القرى والأرياف وحتى في المدن الكبرى، وحتى كبار المسؤولين الذين كانوا يتولون المناصب المدنية في العمالات الثلاث وفي الحكومة العامة كانوا في الغالب من ذويي الخلفية العسكري.

 ثم جاء ميلاد الدولة الجزائرية المعاصرة، وحتى قبل إعلان الاستقلال الرسمي في الخامس من يوليو 1962، عايش الجزائريون ولادة تلك الدولة في الأرياف والبوادي والجبال وحواري المدن الشعبية، بالضبط في الوقت الذي بدأوا فيه بتلقي الأوامر والتعليمات من ضباط وجنود جيش التحرير، وشرعوا يدوسون على النظام الفرنسي السائد، وفي الوقت الذي أخذوا يوجهون فيه التحية للعلم الوطني. لقد ارتبط ظهور الدولة في ذهن الجزائريين بذلك اللباس العسكري المهاب والمحترم، ومثلت لهم العسكرية أبلغ صور التعبير عن وجود الدولة وعن استرجاع الشخصية والسيادة المسلوبة من قرون خلت، وكان أول هيكل إداري وطني تعاملوا معه بكل تفاصيله، من إدارة مدنية وقضاء وشؤون اجتماعية، عسكري بحت.

يذهب كثيرون لكون الجزائر قد ولدت من رحم جيش التحرير، لكن ليس هذا دقيقاً بالضبط، فالحقيقة أن جيش التحرير هو من خرج من رحم الشعب الجزائري، فعكس كثير من دول العالم ومن الدول العربية، لقد تأسس جيش الجزائر قبل تأسس الدولة نفسها، وتشكل في قوامه وقيادته وجنوده من أفراد الشعب، فلم يسبق لقادته العظام الذين سيهزمون جيشاً عالمياً معدوداً في أكبر جيوش العالم، أن ارتادوا كلية عسكرية أو تلقوا تكوين حربياً. لقد فرض عليهم إعلان الثورة الانتقال بسرعة كبيرة من ميدان النضال الوطني السياسي إلى ميدان المعارك المسلحة والتكتيكات العسكرية، ووجدوا أنفسهم يرتقون سلم القيادة والرتب، التي حددها مؤتمر الصومام الذي جاء ليضبط الانطلاقة الحماسية ويرتب شؤون الثورة التي ألقيت إلى الشعب بشكل مستعجل، وعندما بات من الخطر تأخيرها أكثر.

وقع انقلاب عسكري على نظام الرئيس هواري بومدين بعد سنتين من توليه السلطة، من قبل قائد جيشه، ورغم أنه مني بالفشل فقد ترك انطباعاً سيئاً لديه، وشكل له هاجساً بات يؤرقه من قيادة الجيش.

كان مؤتمر الصومام أول من بحث تلك العلاقة التي ستغدو هاجساً يؤرق الأجيال اللاحقة، وكان عبّان رمضان أول من استشعر وحل المعضلة العسكرية، وتنبه بحس مدني وسياسي عال، لخطر نمو سطوة الجهاز العسكري. حتى والثورة في بدايتها والارتكاز كله على العمل المسلح وعلى تضحيات جيش التحرير، والدولة غائبة. فقط أصر على تضمين القرار النهائي للمؤتمر التاريخي، الذي سيصبح ميثاقا للثورة، عبارة: أولوية السياسي على العسكري!

مثلت هذه عبقرية فذة من عبّان رمضان، ربما أملتها ثقافته ومستواه العلمي الذي تفرد به عن باقي زعماء الثورة، وربما كانت نتيجة انطباع كونه عن سياق الأحداث في تلك البداية، وإن كان البعض يعطيه تفسيرات أخرى، من قبيل أنه التحق بالثورة عقب بدايتها بسبب الاعتقال، واستحدث ذلك بحثاً عن مكانة له كسياسي وسط العسكرية التي نمت سريعاً. ولا أعتقد هذا الأمر يستقيم من الناحية التاريخية لكثير من المبررات، منها أنه كان يحظى بمكانة مرموقة قبل ذلك المؤتمر، ومنها أنه أيضاً انتمى لذلك الهيكل العسكري وحمل السلاح.

ورغم أن عبّان قد دفع ثمناً غالياً نتيجة موقفه ونتيجة ملابسات أخرى، لكن قراره نجح في قيادة الثورة لبر الأمان، ومكن الجزائر أن تؤسس لظاهرة صحية، ذات ملامح ديمقراطية حتى والدولة فيها في المرحلة الجنينية والصراع في ذروته والحرب دائرة. حيث تشكل مجلس وطني، انتخب حكومة مؤقتة، على رأسها رجل مدني، أشرفت على شؤون الثورة وعلى شؤون الجيش والمفاوضات مع فرنسا، حتى تاريخ تحصيل الاستقلال واسترجاع السيادة.

وإن دفعت ضرورات الحرب وملابسات الثورة، الجميع للعمل والتعايش والانسجام، فإنه مباشرة بعد ما لاحت بشائر النصر، حتى بدأت الخلافات الجوهرية تطرح بين القوى السياسية والعسكرية المؤثرة. ولم يمضي وقت طويل على رفع علم الجزائر على عاصمتها، حتى دب النزاع بين القوى الثلاث التي تقاسمت المشهد، الحكومة المؤقتة، وجيش الولايات، وجيش الحدود.

كانت الحكومة المؤقتة هي الهيئة الشرعية التي يخول لها سياسياً وقانونياً قيادة الجزائر المستقلة حتى تجرى انتخابات ديمقراطية لبناء مؤسسات سياسية جديدة. حيث كانت تتلقى الدعم في ذلك من جزء مهم من الهيكل العسكري الذي خاض الثورة، وهو جيش التحرير المتواجد بالداخل، لكن كان هناك جزء آخر يعترض على ذلك، إنه جيش الحدود. كان جيش الحدود عبارة عن جزء من جيش التحرير، تكتل على الحدود المغربية، بغرض الدعم اللوجيستي للداخل وتوفير مكان للتدريب والتخطيط والاستعلام. حتى بات أقوى أجهزة الثورة وأكثر تنظيماتها العسكرية تسليحاً وعدداً وتدريباً، وعين قائده هواري بومدين نتيجة ذلك، كقائد لأركان جيش التحرير ككل، في بحث عن توازن بين العصب الناشئة.

لكن صبيحة الاستقلال، ركن هذا الجيش لمبرر رفض مقررات اتفاق إيفيان الذي استقلت بموجبه الجزائر، وأعلن عدم اعترافه بشرعية وسلطة الحكومة المؤقتة، وزحف على العاصمة، بعد تحالفه مع الزعيم التاريخي أحمد بن بلة، واستولى على البلاد بعد صيف ساخن من المواجهة العسكرية الحامية مع جيش الولايات التاريخية.

كان هذا أول انقلاب عسكري في تاريخ الدولة الجزائرية المعاصرة، ليعلن بعده المضي في نظام عسكري أحادي ذو صبغة ماركسية ماوية، غيبت معه إرادة الشعب، جُمّل بوضع سياسي تاريخي على رأسه. ولن يدوم الوقت طويلا لتتكرس العسكرية أكثر، وينقلب قائد الجيش على رئيس الدولة المدني، وينصب نفسه رئيساً ورفاقه العسكر في مجلس ثوري لقيادة البلاد. ولأن الانقلابات هي ديدن النظم العسكرية، وهي أكثر حدث يتكرر فيها، فقد وقع انقلاب عسكري على نظام الرئيس هواري بومدين بعد سنتين من توليه السلطة، من قبل قائد جيشه، ورغم أنه مني بالفشل فقد ترك انطباعاً سيئاً لديه، وشكل له هاجساً بات يؤرقه من قيادة الجيش، مما جعله يتوجه لإبعاد كل القيادات العسكرية الثورية عن الجيش، لما تحظى به من شرعية تاريخية. وترك الباب مفتوحاً للضباط الجزائريين المسرحين من الجيش الفرنسي وذوي الخلفية التاريخية السيئة، للارتقاء في سلمه، لأنهم كانوا في نظره أقل خطراً، ولا يملكون أي شرعية لإزاحته من مكانه، ولا يسعفهم تاريخهم لفعل ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.