وإن لم تكن القدس حلمي الأول، فلتذهب أحلامي عبثاً لا اريدها أبداً.. ابتعد عنها ما يقارب الخمسة كيلو متر، جدار فصل عنصري لعين حال بيني وبينها، أمر من جانبه اتساءل متى سيزول؟ وهل سأذهب إليها مشياً على الأقدام يوماً ما؟ لطالما حلمت ألا تغيب عن تفاصيل يومي، أن أذهب إليها للصلاة كل يوم، للبكاء والدعاء حينما يضيق صدري، للمشي في ساحاتها في أوقات المساء، في العيد ورمضان وكل يوم وأي يوم أريد، لكن لم يحدث وصار هذا الحلم خيال يرافقني عند أي فيديو عنها أو مقال أو صورة أو شيء يذكرني بها.
مدينة القدس، كأن اسمها لوحده يكفي لمعرفة حلمي، بكل ما تحمله هذه المدينة من قداسه وتاريخ، بكل معنى الكلمة، المدينة المحتلة التي لا تعرف سوى الحرية. كم مرت أوقات لم أكن فيها، لم اتنعم في جمالها وطمأنينتها، كم ضاع مني أمانها وعنادها، كيف بقيت بعيدة عنها لا أدخلها إلا بتصريح بالي، من أعطاهم الحق في حجزها عنها، تمر الأيام بدونها حزينة كئيبة لا نعرف لها طعم ولا لون. معالمها القديمة، تاريخها الأبدي، أذانها المختلف، ألوانها الغريبة، سوقها الجميل، زخارفها الثمينة، حجارتها، أبوابها، قبتها، وأشجارها كل شيء فيها قادر على بعث الروح فيّ من جديد.
قريبةٌ هي مني، وقريبة أنا منها، بوصلتي الأبدية، وسر حريتي، سأظل انتظر حريتها المؤكدة ما دامت أنفاسي في صعود ونزول، وسيبقى اسمها متربع على عرش أحلامي. |
يأتي شهر رمضان ويليه العيد، من المفترض أن نعيش طقوس الشهر الفضيل وفرحة العيد فيها، لك أن تتخيل كيف نترقب أخبار التصاريح قبل مدة زمنية ليست بالقليلة قبل اقتراب الشهر ليتسنى لنا دخولها، أن يسمح لنا أولئك المحتلون أو لا بالذهاب إليها، وفرصة الهروب في حال الرفض قائمة. معاناة الحواجز والتفتيش والتدقيق، نظراتهم المستفزة، أصواتهم القبيحة، وجودهم كافي لخلق حالة من التوتر في أي مكان، علينا التحمل للوصول إليها، وما إن وصلنا حتى نسينا كل ما سبق، بمجرد أن تلمح من بعيد ذهبية قبتها البراقة، تبهر الأعين في كل مرة، تتقدم نحوها في تخطي لباحاتها الواسعة، قدموا إليها من مختلف مدنها، ينامون ويأكلون، يلعب الصغار، يصلون الكبار، أدعية هنا وهناك.. وفي زيارتك للمسجد الأقصى نزولاً إلى المنطقة الأخرى، تنبهر بالزجاج الملون أعلى حيطانها، أسماء الصحابة مزخرفه أعلاها، منبره، أصوات تلاوة القرآن معبقة في المسجد. مسن يأخذ قيلولة في انتظار أذان، وجه طفلة مندهشة في المكان، ثم المكتبة التي تجد فيها مخطوطات قديمة تعود للعصور السابقة، وكتب السنة النبوية، وكتاب الله بمختلف الأشكال والخطوط.
في الساحات، صنابير المياه الباردة تناديك، ومتوضأ في كل مكان، وقبب، وأبواب داخلية وخارجية ومغلقة، وبيوت قديمة مطلة على الساحات، وأسواقها التي تجد فيها ما تحتاج وترغب، وباب العامود ودرجاته، وباب الأسباط الشاهد على رفض البوابات الإلكترونية، وكنيسة القيامة، وطريق الآلام، وبائع الكعك، والأصوات المنبعثة من كل مكان، وعبق الحرية الذي تشعر به وأنت في عاصمة الجمال. علم فلسطين الغائب، وأصوات البائعين، وانبهار السياح، ولغات مختلقة من كل العالم أتت إليها مذهولة، والمارون إليها من كل مكان، وتجاعيد المسنين مؤرخة للذكريات الخالدة، كل هذا وأكثر تجده في رحلتك إليها، حتى الحمامات التي تطير بحرية إليها احسدها.. لماذا لم أكن هناك مثلها! قريبةٌ هي مني، وقريبة أنا منها، بوصلتي الأبدية، وسر حريتي، سأظل انتظر حريتها المؤكدة ما دامت أنفاسي في صعود ونزول، وسيبقى اسمها متربع على عرش أحلامي، وستبقى الأمنية الأكثر ايلاماً لي، مدينة السلام والحرية ستبقى ما بقي الزمان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.