بنبرة يغلب عليها قليل من الحزن وكثير من الارتياح، تشكر أرملة المناضل الشيوعي موريس أودان الذي عاش من أجل جزائر مستقلة، الرئيس الشاب إيمانويل ماكرون على شجاعته باعتراف الدولة الفرنسية في ممارسة التعذيب وقتل زوجها الذي كان يحضر سنة 1957 أطروحة دكتوراه في مجال الرياضيات. فيرد هذا الأخير: "لا أنا من عليه بالأحرى أن يعتذر (..) وبهذه الخطوة سيفُتح ملفا جديدا وهو ملف الأرشيف الذي سيكون في متناول المؤرخين (..) أرجو أن تكون مرحلة جديدة من الذاكرة التي تجمعنا بالجزائر والكثير من الدول الأخرى".
بهذه التصريحات فُتحت من جديد وبشكل رسمي، الجروح التي خلفها الاستعمار الفرنسي في الجزائر والتي يبدو أنها ستأخذ الكثير من الوقت لتندمل وتطوى نهائيا. الرئيس الحالي لفرنسا يعتبر من الأجيال الجديدة التي لم تعرف الاستعمار ولا أساليبه البشعة التي مارستها مع مستعمراتها القديمة، حيث أنه ولد بعد عقد ونصف من استقلال الجزائر، لكن رغم هذا وعلى عكس من سبقه على رئاسة الإليزيه، يجد نفسه وريثاً شرعياً لملف تاريخي ملغّم، يضعه من جهة أمام أجيال جزائرية تنتظر بلهفة اعتذاراً يشفي صدورها ويرجع لها اعتبارها، ومن جهة أخرى، في مواجهة أجيال فرنسية ترفض جملة وتفصيلا مسؤوليتها اتجاه تاريخها الدموي المتعلق بالحقبة الاستعمارية في الجزائر وتلقي باللوم على الأجداد.
كل هذا لم يمنع الرئيس الفرنسي الذي يبدو واثقاً منذ توليه مقاليد الحكم في كل خطوة يخطوها، من نبش أحد الملفات الشائكة التي عرفتها ثورة التحرير الجزائرية والتي تتجلى في التعذيب اللإنساني الذي مورس في حق الكثير من المناضلين إبان تلك الحقبة. لكن ما يشد الانتباه، هي الكيفية الانتقائية، الإقتصائية التي نُبش بها الجانب الفرنسي هذا الملف والتي عقبتها اعترافات رسمية بممارسة التنكيل والتعذيب من طرف المظليين الفرنسيين في حق أستاذ الرياضيات في جامعة الجزائر في خمسينيات القرن الماضي موريس اودان، بتهمة دعم جبهة التحرير الوطني، ونضاله من أجل استقلال الجزائر. لكن لماذا موريس اودان دون غيره؟ لماذا هذا المناضل الشيوعي ذو الأصول الفرنسية؟ ولماذا الاعتراف فقط دونما الاعتذار الرسمي؟
كل هذه الأسئلة المحيرة، توحي بأن الاعترافات الفرنسية رغم تثمينها من الطرف الدبلوماسية الجزائرية، تبقى بعيدة كل البعد عن خيار تحمل المسؤوليات وتسوية الوضع التاريخي الذي بات يثقل بشكل كبير كاهل الأجيال الناشئة للبلدين، فلم يكن موريس اودان الذي يعتبره الجزائريون أحد شهدائهم الأبرار وأبطالهم الميامين، وحده من طالته بشاعة التعذيب والتنكيل. بل قائمة المفقودين والقتلى والمعذبين في تلك المرحلة المظلمة من تاريخ فرنسا تطول. نذكر على سبيل المثال لا الحصر، المناضلة جميلة بوحيرد، العربي بن مهدي، أحمد زبانة، وآخرون كثر لاقوا الويلات من طرف قوات الاحتلال، وذلك باعتراف الصحافة الفرنسية آنذاك. لكن يبدو أن هذه الأسماء لا تعني شيئا لدولة حقوق الإنسان، بل على العكس مثل هذه التصرفات تثبت مدى إصرار الطبقة السياسية الفرنسية على تبني منهجية التعالي والعنصرية في تعاملاتها مع مستعمراتها القديمة ومقاربتها لشعوب تلك المنطقة.
من جهة ثانية، تمثل مسألة الاعتذار "الرسمي"، في الوقت الراهن بل وحتى لعقود مقبلة معضلة يصعب طرحها موضوعيا، وذلك لاعتبارات عدة، من بينها مسألة التعويضات والمتابعات القضائية خاصة لبعض لأعضاء "منظمة الجيش السري"، التي يبدو أنها تقلق وتوتر الطبقة السياسية الفرنسية من يمينها المتطرف إلى يسارها السمح. كيف لا؟ وهي التي ستجرد حتماً الابنة الصغيرة للكنيسة من عباءة الإنسانية والدفاع عن حقوق الإنسان عبر العالم. أما السؤال الذي ستجيب عنه الأيام لا محالة، هل سيكون فتح أرشيف ثورة التحرير الذي احتجزته فرنسا منذ مغادرتها الجزائر، انتقائيا عنصريا، مُماثلا لاعترافات الإليزيه مؤخرا؟ أم ستتجلى طموحات الرئيس الفرنسي في أن تُشفى الذاكرة التي تجمع الجزائر وفرنسا معا؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.