بعيدا عن لخبطة البعض، وهذيان البعض الآخر ممن حركتهم اليوم استفزازات حفنة من المتفرنجين، الفرنكوفونيين المتربصين باللغة العربية في بلاد العرب وما يكنون لها من عداء خولتهم مناصبهم ومواقع مسؤوليتهم المزورة آليات لتنزيل الكيد وسيادته "وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ"، هؤلاء الذين يكتمون في سابق الزمن عداءهم للغة العربية، فما عادوا يخفونه اليوم لما يشهده العالم العربي من ترد وانحطاط اجتماعي واقتصادي وسياسي، حتى الأخلاقي، يرى فيه رجال التغيير المنشود بداية النهاية المفعمة بالأمل، وبعيدا عن التغريدات المأجورة لأبناء هرتزل، والذين تبوؤوا من مناصب المسؤولية في البلدان العربية، ما له بالغ التأثير في مجال التعليم والتربية. بعيدا عن كل هذا، لماذا تُسْتَهْدَفُ اللغة العربية؟
والتاريخ يشهد أن العلاقة بين معاداة الوحي ومعاداة اللغة العربية وطيدة منذ زمن بعيد، فكثير من العجم والمسخرين من العرب من حاربوا العربية كلغة على امتداد الأربعة عشر قرنا الماضية، لما لها وما معها من تعظيم وتشريف كما سنرى بعده. فإلى زمن قريب نجد ما فعله كمال مصطفى في تركيا للمسلمين من فرض للأذان باللسان التركي بدل العربي، وغير ذلك من إجراءات كثيرة مست اللغة العربية تزييفا منه للهوية المسلمة بمساعدة ـ بلطجيي ـ الفكر العلماني ورواده كالمسمى إسماعيل حقي الذي دفعته جرأته العدائية بعد ذلك إلى اقتراح إدخال الموسيقى في الصلاة، الشيء الذي استفز دعاة الفكر القومي العربي كساطع الحصري الإسطمبولي فاقترح في ردة فعل منه بعد فراره إلى سوريا جعل اللغة العربية صنما وثنيا يُعبد، تقليدا منه لإنجازات فخت الألماني المفكر المتعصب للغته. وبتوالي إجراءات كهذه للقوميين العرب ومن والاهم سيطر الهوى وساد ببلاد المسلمين، فسار هناك من يمجد العربية كلغة الضاد ومن يعتز بها ويفخر كونها لغة الوحي ووعائه، لما شرفها الله عز وجل به من أبدية لكلمته وخطابه الأخير للإنسان.
لا بد من تعليم وتلقين العربية الفصحى للنشء من المهد إلى اللحد حتى تعود لمكانتها المتميزة باستقلالها وانفتاحها على مختلف العلوم الكونية والمعلوماتية والتكنولوجيا |
فاللغة العربية، لغة الحكمة والرحمة بما عمَّها من روح القرآن، كانت ولا زالت وستبقى اللغة الوحيدة القادرة على حمل رسالة الله إلى هذا الإنسان الذي يدب على الأرض بما يريد تبليغه المُرْسِلُ وبما يخدم المرسَل إليه ويبنيه ويقويه في عالم ضائع أوجعته "الحداثة"، وساده العنف. وفي زمن كهذا الذي نعيشه اليوم، نشهد فيه ضحالة اللغة العربية بفعل المسخرين من بني جلدتنا، إذ لا تَمَسُّكَ بالجنسية أوالوطنية، ولا إخلاص لهما يمكن البَرهَنة عليه من دون إعلان الإخلاص للغة الوطنية العربية، فابن باديس الجزائري كان يعبئ جماهيره بعبارته الشهيرة: "الإسلام ديني والعربية لغتي والجزائر وطني". لا كما يفعل من تقلدوا مسؤوليات في بلداننا من تفاخُرٍ بحملهم لجوازات سفر أجنبية، وجنسية غربية. وهذه اللغة التي جاء بها محتوى القرآن الكريم المحفوظ من كل تزييف الخالي من الشوائب، المعجز، الغير قابل للترجمة ـ يقبل تأويلات فحسب ـ موجه إلى كل إنسان وفي كل زمان، فطوبى في نظر العقلاء لكل سعيد تنفذُ موسيقى الكتاب المحفوظ إلى قلبه لِما معه من العربية يُقَدِّرُه على قراءته وتدبره وفهمه واستيعابه للزومه، وفي كُلٍّ جزاء.
لهذا وغيره نجد المسخرين لأعداء اللغة والوحي من بني جلدتنا يُجدون ويَجتهدون لإضعاف الدين والتدين، بجعله حقلا من الحقول، حكرا على بعضٍ من العقول، بعيدا عن اللغة العربية وتعظيمها، الدافع لتعليمها وتلقينها بالوجه الصحيح، مقابل تشجيع مُقزِّز للهجات عامية لا يفهمها عموم العرب، محدودة مكانيا وموسوعيا. إذ متى التحم تمجيد اللغة أو اللهجة بعيدا عن الدين بالعرق كما هو الحال في غالب بلاد القومية العربية اليوم، فذاك هو الخطر المحدق على الإنسان ومصيره.
ليبقى السبيل الوحيد لمواجهته وتفاديه تعلم كل مسلم حريص على دينه حدا أدنى من القرآن الكريم بلفظه العربي المبين، لما لذلك من شعور روحي وسمو إيماني عظيم. ولذلك نجد القرآن الكريم الكتاب الأشد تحفيزا لقدرات الإنسان، والأدعى للتقدير والتقديس، والأبلغ تأثيرا ليس بلفظه العربي ولغته العربية فحسب وما لها من خاصيات تميزها، بل بما حملته واستطاعت حمله هذه اللغة من الوحي ونوره وجلاله.
حتى لا يُهْلكنا جهلنا باللغة العربية أو العجمة كما قال الحسن البصري رحمه الله فيما أخرجه البخاري في تاريخه الكبير: "إنما أهلكتكم العجمة"، تلك العجمة التي تحول دون البيان في فهم القصد النصي بخلاف اللغة العربية الآلة الخاصة بذلك، والتي يعتبرها الأصوليون جزءا من الدين بترديدهم عبارة أصولية شهيرة ـ جُزْءُ مَاهِيَّتِه ـ وما لها من دلالات، فجعلوها شرطا من شروط الاجتهاد، فلا مجتهد من دون ضبطه اللغة العربية وإتقانها. ولنطالع بدقة واستجلاء معيار الإمام الغزالي رحمه الله بخصوص الحد الأدنى من علم اللغة الضروري للمجتهد عند المسلمين إذ يقول عنه:
"إنه القدر الذي يفهم به الخطاب العربي، وعادتهم في الاستعمال حين يميز بين صريح الكلام، وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيده، ونصه وفحواه، ولحنه ومفهومه. وهذا لا يحصل إلا لمن بلغ في اللغة درجة الاجتهاد". ليكون هذا حصانة مما نحن فيه اليوم وما حذر منه سيد الخلق النبي العربي صلى الله عليه وسلم حين قال فيما رواه الإمام أحمد رحمه الله عن سهل بن سعد رضي الله عنه: "اللهم لا تدركني زمانا -أو لا تدركوا زمانا- لا يُتبع فيه العليم، ولا يُستحيى فيه من الحليم، قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب"، وشتان بين عجمة اللسان وعجمة القلب المقصودة من الحديث.
حد أدنى من القرآن الكريم بلفظه العربي مُضاف إلى حد أدنى من التمكن في العربية، مع حد أدنى من التدريب الدربة على الاستنباط وتحقيق المناط، هذه مهمة سامقة لنظام التعليم الباني، الخادم لهذا الإنسان في كل زمان ومكان، وبرفع عتبة هذا الحد ببلداننا العربية وحده يمكن أن ينبغ مستقبلا في صفنا علماء وأفذاذ قادرون على الاستنباط والتدقيق ومتخصصون في العلوم البانية الخادمة لغاية الخلق والوجود. وذاك هو السمو الذي لا يطاوله سمو. إذ لا بد من تعليم وتلقين العربية الفصحى للنشء من المهد إلى اللحد حتى تعود لمكانتها المتميزة باستقلالها وانفتاحها على مختلف العلوم الكونية والمعلوماتية والتكنولوجيا، لتتقدم كافة اللغات في مجالات العلوم، فتعود لها الإمامة والريادة والسيادة، بعد كل هذه التبعية المؤلمة في عالم العلوم، فالواقع يشهد أن لها ما يؤهلها لذلك مما معها من ثروة وغنى لغوي.
وإلى ذاك الحين فالشعوب العربية لا زالت تعاني ما يسميه البعض بالسكيزوفرنيا الثقافية، أو انفصام الشخصية، لما يُراد لجامعاتها ومدارسها أن تُخرج من أرباع المتعلمين الدارسين بلغة عجمية صرفة لبعض العلوم أو العجمية المعربة وغيرها لأخرى، حتى نرى عددا من خريجيها عالة على أنفسهم وعلى المجتمع أحيانا. فاللغة الهجينة المختلطة التي خلفها المستعمر بما أسكنها من ملتقطات لغته في بلادنا السائدة بمدارس الشعوب العربية لا تجعل الخريج إلا تابعا لا سيدا، ناجزا ولغيره القرار.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.