شعار قسم مدونات

الثقافة التعليمية الألمانية.. لماذا تقدمت ألمانيا على كل الدول!

blogs التعليم بألمانيا

المكان: مدرسة ابتدائية ألمانية!
الطلبة: من مختلف الجنسيات!
المادة التي يتم تعليمها: الأخلاق!

نعم، الأخلاق مادة من المواد التي يتم تعليمها للطلبة خلال تعليمهم الأساسي. هذه المادة هي من المواد المختلفة التي يتعلمها الطلبة خلال دراسة الحضانة أولا وتستمر معهم حتى إنهاء التعليم الأساسي ودخول المرحلة الثانوية (الصف السابع حسب المفهوم العربي عموما والسوري خصوصا).

يتعلم الأطفال خلال هذه الفترة العديد من الأساسيات التي أصبحت للأسف منسية في مدارسنا بشكل عام ومنها، عدم رمي النفايات في الشارع، احترام القانون، احترام إشارات المرور لأنها موجودة لحماية الشخص وليس لعرقلته، تشكر كل ما يقدم معروفا أو حتى بعد شراء أي شيء من المحال التجارية. تعتبر هذه المادة، إحدى المواد البسيطة التي يتعلمها الطلبة والتي تتضمن الكثير من المواد التعليمية العامة الأخرى كالموسيقى، السباحة، وغيرها والتي تهدف لتنمية مهارات الطلبة الحسية والعقلية ودفعهم للخروج من بوتقة التكرار إلى فضاء الابتكار الحر. تعتبر هذه الطريقة إحدى أنجح الطرق التعليمية في العالم والتي أوصلت ألمانيا إلى مصافي الدول المتقدمة. بالطبع هنالك نماذج أنجح تعليميا في العامل ومنها النموذج الدنماركي، السويدي، الفنلندي وكذلك النروجي.

في العام ١٩٤٥ وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية ودمار ألمانيا بنسبة تزيد عن ٩٦٪، كان من أهم الأهداف لدى الحكومات الألمانية المتعاقبة بعد نهاية الحرب تطوير النظام التعليمي الألماني للوصول إلى الإنسان الألماني، القادر على تخطي العقبات، الإبداع، وبناء الأفكار. وهذا ما حصل بالفعل وخلال أقل من ١٥ عاما بعد نهاية الحرب، بدأت الصناعة الألمانية بالإبداع مجددا، تاركة باب التطوير والبحث العلمي مفتوحا لكل من يملك القدرة لذلك. اليوم وفي العام ٢٠١٨، تحتل ألمانيا المرتبة الخامسة عالميا بعدد براءات الاختراع المسجلة. والمرتبة الرابعة عالميا في براءات الاختراع الصناعية.

المنظومة التعليمية في ألمانيا بشكل خاص، وأوروبا بشكل عام تتمحور دائما حول طرق وإمكانية تطوير الطلبة بشكل أكبر حسب رغباتهم وأهوائهم

إن الثقافية التعليمية في ألمانيا تعتمد على تطوير مهارات الطالب المختلفة، إن كانت رسما، موسيقا أو في الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء. عبر هذه الطريقة الإبداعية، يمكن للأساتذة وللمرشدين التربويين والاجتماعيين، معرفة ميول الطلبة وتوجيههم مع أهاليهم لما هو أفضل لهم من الناحية الدراسية والعلمية. هذا التوجه أدى خلال أعوام بسيطة لنشوء طبقة من الخبراء ضمن كل الاختصاصات حتى ضمن الاختصاصات الفنية. فعندما نتحدث عن نجارين أو حدادين، فالمنتج الألماني يعتبر إلى اليوم الأفضل والأقوى عالميا.

اليوم وبعد دخول عدد من أطفال المهاجرين الجدد إلى المدراس الألمانية، بدأ الأهل ملاحظة العديد من التغييرات! من المنظور العربي، السوري هذه التغييرات أكثرها سيء، لأنها تحمل العديد من صفات الاستقلالية للطفل، قوة الشخصية، القدرة على التفكير المستقل. هذه الصفات كانت ممحية تماما في ثقافتنا التعليمية في بلادها إلا ما ندر. كان من الممنوع على الأطفال والطلبة التفكير المستقل. كان ممنوعا عليهم وعلينا طبعا – ممن أنهى تعليمه المدرسي في سوريا – التفكير الإبداعي. إن فكرة التعليم المهني أو الفني، أو تعلم الفنون كان ومازال من الممنوعات لدى العائلة السورية.

من وجهة النظر العربية عموما والسورية خصوصا، فإن المعدل العالي في الثانوية العامة يعتبر الأهم، دون الأخذ بعين الاعتبار رغبة الطالب أو ميوله. هذا أدى ومازال يؤدي إلى نشوء جيل كامل من الطلبة القادرين على الحفظ الاعمى دون التفكير على الإطلاق. في هذا السياق سأعطي مثالا من حياتي العلمية الحالية حيث لدي طالبان الأول يحمل الترتيب ٣٤ في بلده، يدرس الطب، الثاني يحمل الترتيب ٨٠ ألف، يدرس العلوم. الأول وبعد ثلاثة أشهر في المخبر لا يستطيع حتى الآن أن يقوم بحسابات بسيطة للتراكيز أو تحضير لبعض المحاليل. بينما طالب العلوم، وخلال أقل من أسبوع استطاع البدء بحل المشاكل العلمية المختلفة، ناهيك عن قدرته الحسابية التي فاقت التوقعات. أين تكمن المشكلة؟

المشكلة هي دفن ميول وقدرات الطلاب وتوجيههم دون أي وعي على الإطلاق نحو أهمية قدراتهم ومهاراتهم وأهمية تنميتها بالشكل الصحيح والمناسب. كم من الناس فشلوا اجتماعيا وعمليا وعلميا لسنوات طويلة في حياتهم لوقوعهم ضمن هذه المنظومة الفاشلة في التعليم. مثال آخر أكثر حدة، وقد يهاجمني البعض لطرحه: نتباهى كثيرا بأطبائنا أو صيادلتنا ونجاحهم في بلاد المغترب! مالم ننظر إليه هو قدرتهم الإبداعية لحل المشاكل والمعضلات والتفكير العلمي البحثي. فكم من العرب وصلوا لمراحل متطورة ضمن البحث العلمي مقارنة بأعداد العاملين في القطاع الطبي والهندسي في ألمانيا. النسبة ضئيلة جدا، لأن طريقة إنشاء العقل خلال فترة الدراسة ركزت على الحفظ الاعمى فقط دون التفكير وعليه نجد النجاح بشكل ممتاز في الأعمال الروتينية أما في الأعمال التي تحتاج إلى تفكير وإبداع نجد نسبة الناجحين ضئيلة جدا.

إن المنظومة التعليمية في ألمانيا بشكل خاص، وأوروبا بشكل عام تتمحور دائما حول طرق وإمكانية تطوير الطلبة بشكل أكبر حسب رغباتهم وأهوائهم. هذا الأمر لا يسعني إلا التركيز عليه وتكراره عدة مرات، حيث أن سياسة القطيع الواحد والدراسة الواحدة (الطب، الصيدلة، وطب الأسنان) ليست هي الأهم هنا في ألمانيا. إن أبداع الطالب كنجار أو حداد أو ميكانيكي أو مهندس عمارة أو أي شيء آخر هو الأهم للوصول إلى الإبداع. خلال عملي السابق كمستشار للدراسة في ألمانيا، كانت تصلني الكثير من الأسئلة من شبان وشابات يرغبون بتغيير دراستهم تماما من الطب أو طب الأسنان وتحويلها إلى دراسة تصميم السيارات على سبيل المثال.

 

المنظومة التعليمية الألمانية، لا تدعو على الإطلاق لتبني ثقافة كره العائلة أو الخروج عن العادات والتقاليد، بل تدعو إلى استقلالية التفكير والخروج عن المألوف والإبداع في العمل وتنمية المواهب
المنظومة التعليمية الألمانية، لا تدعو على الإطلاق لتبني ثقافة كره العائلة أو الخروج عن العادات والتقاليد، بل تدعو إلى استقلالية التفكير والخروج عن المألوف والإبداع في العمل وتنمية المواهب
 

العائلة والمجتمع في بلادنا وحتى ضمن المجتمعات المغلقة ضمن المغترب، تجبر الطلبة على اتخاذ طرق معينة محددة لا يسمح لهم بتغييرها. فالمجتمع التركي على سبيل المثال لا الحصر، تتركز أعماله في المطاعم وتجارة السيارات، وكذلك الجالية اللبنانية التي أتت إبان الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. أما الجالية الروسية، ففرضت على أفرادها العمل ضمن التجارة الحرة أو تجارة قطع الغيار وغيرها من الأعمال. إن نسبة المتعلمين والحاصلين على شهادات الدكتوراه بمختلف التخصصات بهذه المجتمعات "المغلقة" بطبيعتها، لا يتجاوز ال ٥٪ وهذا لا يرد لضعف التعليم الجامعي، أو المدرسي، فهو مجاني تماما في ألمانيا في الحالتين. إن ثقافة القطيع المنتشرة ضمن المجتمعات الشرقية بشكل عام والمجتمعات العربية بشكل خاص، أدت وتؤدي إلى الآن إلى رسم مجتمع من لون واحد، يكون فيه ممن لم يدرس الطب أو الهندسة، خارج هذا المجتمع ومكروه منه.

ما تقدمه ألمانيا اليوم إلى مجتمعات المهاجرين الجدد، عربا كانوا أم أفغان، هو الحرية الكاملة بالتفكير والإبداع وكم من مبدع سوري، وصلوا إلى ألمانيا لدراسة شيء معين، تحت رغبة عائلاتهم، ووصلوا لأبعاد أخرى ضمن مجالات أخرى ومنهم الكاتب السوري الشهير رفيق شامي، الذي وصل ألمانيا لدراسة الكيمياء ليصبح بعدها من أهم الروائيين الألمان والعالميين حتى. إن المنظومة التعليمية الألمانية، لا تدعو على الإطلاق لتبني ثقافة كره العائلة أو الخروج عن العادات والتقاليد، بل تدعو إلى استقلالية التفكير والخروج عن المألوف والإبداع في العمل وتنمية المواهب. على المهاجرين الجدد وحتى القدماء منهم، أن يعوا هذا الأمر، ومنه سيستطيعون الوصول إلى ثقافة تعليمية تأديبية أفضل لأولادهم.

في النهاية، إن الثقافة التعليمية الألمانية يمكنها نقل الجيل الجديد من المهاجرين الجدد من مرحلة تفكير القطيع إلى مرحلة تفكير تتسم بالإبداع والتطوير، وهذا أمر علينا جميعا أن ندفع لأجله ولتوفيره لأولادنا. هذا الأمر الذي سيمكننا كمجتمعات مهاجرة أن نترك بصمة أكبر ضمن أوطاننا الجديدة، سيجعل صوتنا مسموعا، ليكون لنا تأثير كبير ضمن مجتمعاتنا الكبرى هنا في المغترب عموما وألمانيا خصوصا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.