المرة الأولى التي أقرأ فيها لأدهم الشرقاوي – كنت حينها في الثانوية – كان مقالاً في أحد المنتديات.. كان منتدىً يضم مجموعة هائلة من المميزين الذين صاروا الآن من أشهر الكتاب في الوطن العربي. أذكر بحدة أن المقال كان مكّوناً من مجموعة من العبارات القصيرة الساخرة والمُحمًّلة في ذات الوقت بالكثير من الحكمة.. شيء يجعلك تبتسم وتشعر بالحزن في ذات اللحظة، فهمت حينها سريعاً سر التسمية – قس بن ساعدة– ذلك الحكيم العربي في أيام الجاهلية، صاحب العبارات القصيرة البليغة. أدهم لم يعد قس بن ساعدة، لقد تجاوز مرحلة العبارات القصيرة، ولكنه ظل محافظاً على ذات القدر من البلاغة اللغوية والبراعة الكتابية.
مرة قرأت نقداً موجهاً للرجل بأنه يكتب فقط للمراهقين.. وهذا صحيح إلى حد كبير، لكنه أيضاً ليس عيباً، بل على العكس هو أمر يحسب له، إذ أن من الصعوبة بمكان مخاطبة هذه الفئة المتمردة بصورة جادة. القدرة على إيصال الرسائل وإحداث تأثير فعلي في هذه الفئة بحاجة إلى حصافة حقيقية وذكاء فضلاً عن الموهبة التي يتمتع بها الرجل.. أدهم بطريقة ما تمكن من مخاطبة هذا الجيل ومن التأثير عميقاً فيه.
أدهم الشرقاوي أو قس بن ساعدة كما نعرفه – قد ابتكر رائعة أدبية ولون مميز من الرواية، لون لم يعتمد فيه على الحبكة الروائية، بل على جمالية السرد نفسه، وعلى الحوارات العميقة والقضايا الكبيرة التي نقاشها بشكل جاد ومباشر من خلال شخصيًّتين فقط.. أعطى لكل واحدة منهما شخصية مستقلة بذاتها، وآرائها، يعيشان معاً قصة حب برغم اختلافاتهما الكثيرة، وينجحان بطريقة مدهشة في إدارتها.. فالاختلاف لا يجب أن يفسد للحب قضية، وعندما يبحث المرء عن الحب فهو يبحث عمن يكمله، لا عمن يتماهى مع آراءه ومواقفه.
ناقشت الرواية بشكل أساسي قضية الحرب، بما تثيره من مشاعر متضاربة، وأحزان حتمية، وبما تكشف عنه أيضاً من توحش وفظاعات يرتكبها البشر |
نبض – تلك الفتاة صاحبة الشخصية القوية أراد الكاتب أن يوصل من خلالها نموذجاً مغايراً عن الأنثى.. ذلك الكائن الأليف اللطيف، الذي ليس له رأي ولا قضية، كالزهور الصناعية وإن كانت جميلة إلا أنها في النهاية تبقى بلا روح.. نبض على العكس من ذلك جمالها يتجلى في ذكائها وثقافتها، لا في شكلها ومظهرها كما اعتدنا، ابتكر لها الكاتب شخصية مبهرة وحضور طاغي على طول الرواية، كان اختياره للاسم – نبض- يصب في ذات الاتجاه، يقول لنا أن المرأة شيء حي.. له نبض.. عقل وروح، وليس جماداً للزينة.
ناقشت الرواية بشكل أساسي قضية الحرب، بما تثيره من مشاعر متضاربة، وأحزان حتمية، وبما تكشف عنه أيضاً من توحش وفظاعات يرتكبها البشر.. وبين غبار الحرب الدائرة ودخانها الأسود المتصاعد في السماء.. تجلس نبض وحبيبها في أحد المقاهي ويتبادلان الآراء بشأن كل شيء تقريباً، الحرب، الدين، الشيوعية، الفلسفة، المادية، التاريخ، الأخلاق. يتناول الكاتب كل ذلك بطريقة مدهشة وسلسة وخالية من أي ملل.. تعترضها بين فينة وأخرى عبارات من الحب تلطف الأجواء وتجلي الرتابة.
تموت نبض في آخر الرواية ضحيةً للحرب، ولكنها تظل عالقة في ذهن القارئ بملامحها الذكية وعقليتها الفريدة التي صنعها الكاتب.. قضايا عديدة ومعلومات ثرية ستضيفها لك الرواية بسياقات مباشرة أحياناً وأخرى غير مباشرة. إذا اخرجنا شبح نبض من المعادلة كانت الرواية لتكون كتاباً جيداً لِما بها من ثراء معرفي، إلا أنه بالتأكيد لن يكون بذات السلاسة والجمال الذي في الرواية. هكذا روايات تشكل تحدياً حقيقياً للكاتب، لأنها ترفع السقف عالياً جداً وتصبح هي المقياس الذي تُقارن به أعماله اللاحقة، شيء أشبه "بالعمى" لـ ساراماغو أو "مائة عام من العزلة" لـ ماركيز.. أعمال تتحدى أصحابها أن يأتوا بمثلها مجدداً..!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.