شعار قسم مدونات

الهجرة الكبرى.. هل أجبر الصحابة على ترك مكة؟

blogs الهجرة

"إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" يتجدَّد في مطلع كل عامٍ من الأعوام الهجرية ذكرى هجرة محمد عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة، وما أن يأتي الحديث عن هذا الحدث المهم في تاريخنا حتى يتخطاه الناس إلى الحديث عن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبناء أول مسجد في تاريخ الإسلام، وأحاديث عن الوثيقة التي وضعها محمد للتأسيس للنظام الاجتماعي والسياسي الجديد، ثم لا نجيب عن السؤال الأهم: لماذا كانت هذه الهجرة الكبرى؟ ما الباعث وراء هذا الحدث؟ لماذا بحث محمد عن مكان جديد ليقيم هذا النظام الاجتماعي الذي أراده؟

سيقول قائل: إن محمداً صلى الله عليه وسلم دُفع إلى هذه الهجرة دفعاً؛ ولم يكن له بُدّ إلا الالتجاء إلى هذه الهجرة لإقامة هذا النظام الجديد بعد ما عاناه من رؤوس الوثنية واضطهادهم لأصحابه، وهو قول لا نستطيع بكل حالٍ من الأحوال أن نقبله كله أو نرفضه كله، فلقد كانت هناك عملية دفع للجوء إلى هذه الهجرة بسبب ما عاناه محمد وأصحابه من أذى واضطهاد، لكن هل يشك شاكّ مُطَّلِع على سيرته عليه الصلاة والسلام وأصحابه في أنهم كان في مقدورهم أن يظلوا في مكة صامدين ضد هذا الاضطهاد الوثني ما بقوا هم وبقيت الوثنية معهم تحيط بهم وتحارب دعوتهم؟

 

كان في مقدور محمد وأصحابه أن يظلوا في مكة ما أرادوا يناوئون الوثنيين العداء ويحاجّونهم الكلمة بالكلمة والحُجة بالحُجة، لكن ذلك لم يكن ليُحدِث هذا الانقلاب الكبير في تاريخ الإسلام؛ كانوا سيظلون في مكة بلا تقدم ملموس في طريق الدعوة، فمن أراد الإسلام قد أسلم، ومن أراد أن يظل على وثنيته سيظل عليها إلى أن يحدث حراك جديد في مسيرة هذه الدعوة يحرك هذه القلوب كلها أو جلها. لقد اضطهد ضعفاء المسلمين ما اضطهدوا وتحملوا في سبيل ذلك ما جعل رؤساءهم قد ملُّوا هذا العذاب وصنوفه، وأسلم حمزة وعمر، ونزل القرآن متحدياً الوثنية وكبراءها بكل آيةٍ في أنهم لن يسلموا مهما حدث، وأنهم قد كُتب عليهم عذاب جهنم، نزلت آيات في أبي لهب والوليد بن المغيرة وغيرهما (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ) سورة المسد آية: 3، (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) سورة المدثر آية: 26. 

كان مهماً أن تكون تلك الهجرة والانتقال يوماً لبدء تاريخ الإسلام، لأنه يُعَلِّم الأمم وأصحاب الدعوات كيف تكون ممارسة الدعوات ومناوأة الخصوم والأنداد

لا جدوى إذن من البقاء في مكة؛ لقد أدت المرحلة المكية ما عليها ولا جديد وراء شمسها الآن، إذن لا بد من أن تلجأ الدعوة إلى أسلوب جديد حتى لا يصيبها الفتور في سبيل ما تريد. لقد دُفعت الدعوة المحمدية إلى البحث عن مكان جديد ورجال جدد لاستكمال طريقها، وتحقيق غاياتها؛ فكانت الهجرة النبوية. تلك هي سُنة الدعوات الناجحة ما تكاد تفتر حتى تنشط، وما تكاد تسقط حتى تقاوم هذا السقوط قائمةً في الأفق حتى ييأس المناهضون لها، وتستحثهم على التفكير في ماهيتها وقيمها. ولنا أن نسأل لماذا لم تكن الهجرة في العام الرابع أو الخامس أو السادس قبل إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما أو بعد إسلامهما أو قبل إسلام الأنصار أو بعده مباشرة؟ لم يكن ليحدث ذلك لأن ثمة أموراً لم تكتمل بعدُ في هذا الطَّوْر المكي من الدعوة، وما إن اكتمل هذا الطَّوْر بإيمان مَن آمن وجحود مَن جحد حتى أُذن بالبدء في طَوْرٍ جديدٍ من أطوار الدعوة المحمدية.

لكن لمعترضٍ أن يقول: إن الاضطهاد هذه المرة من الوثنية قد بلغ مداه، وقررت قتل محمد عليه الصلاة والسلام؛ بل وقتل جميع مَن يقف أمامها في سبيل إخماد هذه الدعوة! وما أدراك أنهم كانوا سيصلون إلى ما أرادوا إنفاذه؟ ألم تحط سيوفهم ببيته؟ ألم يلتفوا حول الغار ولو نظر أحدهم إلى قدمه لرأى محمداً وصاحبه؟ لقد كان عليه الصلاة والسلام محاطاً بأمن ربه ورعايته حتى وإن بقي في مكة إلى خروج روحه الشريفة. إنه طَوْر اكتمل وغاية أدركت ما تنشد، ولا سبيل إلا البدء في طَوْر جديد يكمل به محمد صلى الله عليه وسلم دينه ويتم به نعمته.


العقاد والهجرة:

يرى الأستاذ عباس محمود العقاد أن الهجرة كانت عملية فرار بالدين والإيمان من الوثنية المحيطة بها والمتربصة لها، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ملهم الفؤاد (ذلك الإلهام الذي لا يعلوه تفكير ولا تعليم) حين اختار يوم الهجرة بدءاً لتاريخ الإسلام؛ لأنه أدل الأيام على رسالته، وأخلصها لعقيدته ورجاء سريرته، نحن على كل حالٍ لا نحب كلمة الفرار (وإن كان صاحبه يحمل في لحظةٍ من اللحظات إيماناً لا يعلوه إيمان، وصدقاً لا يدانيه صدق) إنما هو خروج من طَوْر إلى طَوْر، وانتقال من دار إلى دار، ومن ثَمَّ كان مهماً أن يكون هذا الخروج والانتقال يوماً لبدء تاريخ الإسلام، لأنه يُعَلِّم الأمم وأصحاب الدعوات كيف تكون ممارسة الدعوات ومناوأة الخصوم والأنداد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.